تربية وتعليم

17سبتمبر

الإنضباط هو عائق السعودة الأول

إنضباط الشاب السعودي هو عائق السعودة الأول، وليس المعرفة الأكاديمية أو المهارة الحرفية. والإنضباط (discipline) هو عائق الإنتاجية الأول في الشرق الاوسط، وهو سبب تخلفنا الإنتاجي – الإبداعي مقارنة بالمناطق الأخرى في العالم. الشعوب الاكثر إنتاجا ليست أكثر ذكاء، فالذكاء لا يصنعه المكان أو الجنس أو العقيدة، بل هو مادة خام موجودة بكل دولة بما يكفي حاجتها التنموية. ثم إن المؤسسات (كالدول والشركات) لا تحتاج إلا القليل من الأذكياء المنضبطين في المهام الإبداعية (كالقيادة والأبحاث والتطوير)، أما أغلب العاملين فلا يحتاجون سوى الإنضباط لتشغيل المؤسسة بكفاءة. الإنضباط هو العامل المشترك بين كل الدول العالية الإنتاج، وليس انخفاض الفساد والبيروقراطية أو ارتفاع الديموقراطية والليبرالية.

الإنضباط هو أن يتحمل الفرد مسؤولياته بلا تقصير وصلاحياته بلا تعدي، ويشمل ذلك (ضمنا) الإلتزام بمسؤوليات وصلاحيات الآخرين في المؤسسة، دون الخلط بين دوره في المؤسسة وخارجها. هذه هي القيمة الأساسية التي تزرعها المجتمعات المنتجة في أفرادها، من البيت للجامعة، فيحملها الفرد للوظيفة. وإذا وجدت المؤسسة عجزا في مهارات الفرد فإن انضباطه يعينها على رفع مهارته، فسيقبل النقد ويبذل جهدا في التعلم. وسواء كنا في المؤسسة أو البيت، فإننا نفضّل المنضبط القليل المهارة على الماهر القليل الإنضباط.

أعراض ضعف الإنضباط تظهر في مرحلتين: البحث والعمل. نسبة البطالة بالسعودية هي حوالي ١٠٪ (في الإحصاءات المحافظة جدا)، ولا تكاد تخلو عائلة من عاطلين وعاطلات، لكن قلة من هؤلاء يبحثون عن وظائف بإصرار. تجتذب بعض الوظائف إقبالا واسعا، كما تؤكد مشاهد محزنة، لكني أظن أن ذلك العدد هو نسبة قليلة من مجموع العاطلين الصالحين لتلك الوظائف، وهي وظائف تقبل خريجي الثانوية أو أقل، وهم كثيرون أفقدهم ضعف انضباطهم (وليس ذكائهم) إكمال تعليمهم. أما في الوظائف المتخصصة، فالوصول للسعودي المناسب يحتاج شهورا من البحث. (من الطريف أن يلجأ سعودي في الرياض لبريطاني في لندن ليجد سعوديا في الرياض.) أعترف بوجود عوامل أخرى، فالتعليم لا يكسِب الطالب مهارات التقدم للوظائف، وأكبر أسواق الوظيفة بالخليج (السعودية) تفتقر قواعد بيانات وظيفية، كما تفتقر التدريب المتخصص، لكني أرى أن الإنضباط يستطيع التغلب على هذا الوضع.

الإنضباط هو أهم ما قدمت جامعة الملك فهد ومعهد الإدارة لمخرجات التعليم، وما نريده من كل المؤسسات التعليمية هو تعزيز ثقافة الإنضباط بصرامة. من المؤسف أن نحمِّل مرحلة التعليم الأخيرة (الجامعات والمعاهد) كامل مسؤولية اصلاح السلوك، وجعله هدفا يسبق المهارات الأكاديمية، لكنها تبقى صمام الأمان الأخير قبل سوق العمل. من نواقص هذا الخيار أن الكثير من السعوديين يكتفون بالشهادة الثانوية أو أقل، وغياب التشديد على الإنضباط في البيت والمدرسة يحرم هؤلاء من تطوير سلوكهم ويثقل المسؤولية الإجتماعية التي نحمّلها الجامعات والمعاهد.

بلا شك، نتيجة تمدننا الطارىء هي خليط صعب من التقدم والإنتكاسات القِيَميّة، وانضباط الفرد هو أحد القيم المتضررة. لنأخذ قريتي البحرية – الزراعية بجوار الخليج كمثال. البحار والغواص عرفا أن التهاون يكلف الحياة، والغوص مؤسسة تراتبية بانضباط العسكر. أما الزراعة فاعتمدت على حضور المزارع قبل ظهور الشمس واهتمامه المضني بالمحصول والحيوانات طول العام. كما أن الزراعة هناك كانت اقطاعية في الغالب، فالمزارع لم يملك الأرض، بل سكنها وأدارها مقابل كمية محصول التزم بها للإقطاعي، وقد يخسر مزرعته (أي دخله وسكن عائلته) إذا أخل بالشروط أو قدّم مزارعٌ آخرٌ إلتزاما أعلى. إذن، الإنضباط ضرورة في البحر والمزرعة، وحدود المسؤوليات والصلاحيات جزء منه. وفي كل الأحوال، لم يتوقع أو ينتظر الفرد حلولا لمشاكله من الحكومة أو غيرها. هذه القرية الجميلة الطاهرة تواجه اليوم (كغيرها) تبعات الفقر والجهل، فكثير من شبابها هم خارج اقتصاد بلدهم (وهو أكبر اقتصاد بالشرق الأوسط)، اإما لأنهم لا يعملون، أو يعملون بأجور تبقيهم تحت خط الفقر. هؤلاء السعوديون يتكئون على حيلَتي الضعيف: الشكوى والرجاء.

قيم الإنضباط نفعت (وإن لم تكف) الأجيال الأولى التي عملت بالمؤسسات الحديثة، لكنها لم تنتقل لأجيال لاحقة. كان الإنضباط قيمة يتعلمها الفرد من مجتمعه، فصارت صفة نادرة ضد التراخي العام. أظن أن سبب انتكاس الإنضباط هو دخول (وطريقة دخول) الدولة كمستثمر شريك في مشروع تنمية كل شاب، بعد أن كان يحدد مصيره بموارده وظروفه المرتبكة. كممول، شاءت الدولة أن تكون شريكا في الأرباح ( أي قصة النجاح)، ففهم الناس أنها (أيضا) شريك في الخسائر. فعندما قالت أنها سبب التوظيف، فهم الناس أنها سبب البطالة أيضا. كما أن عَقد الشراكة يُنفّذ بتساهل يحمّل الدولة مسؤوليتي التمويل والنتائج، وتعفي الشاب من المسؤولية بجعله متلق سلبي. يجب على أي حل لهذا المأزق ان يشدد على أن الشراكة مشروطة بالتزام، والإستثمار محدود بنتائج الإلتزام. إن وصاية البيت والدولة المسرفة على الأجيال الجديدة أتلفتها، وأتلفت البلد.

أغلب دوافع استيراد العمالة خاطئة، ولا يخرجنا من وضعنا الهالك – المهلِك سوى التزامات صلبة من كل الأطراف. لكن القيمة الحقيقية التي نستوردها في العمالة هي الإنضباط، فالميكانيكي يتعلم إصلاح سيارة يراها لأول مرة وبعبء قليل على مؤسسته، لأنه يعتبر إتقان الصنعة شرط بقاء، وهكذا يفعل المبرمج والمهندس. قِيمهم تحملّهم وحدهم مسؤولية بقاءهم ونجاحهم، فهم لا يتقنون اللجوء للغير لأنهم لم يعرفوا في حياتهم من يلجأون له.

9أبريل

الإستنساخ المقدس، معه وبعده

مجتمعاتنا المحافظة هي آلات استنساخ، تنتج أفرادا حسب القالب المقدس الأول. وكل فرد يشذ عن ذلك القالب يعامل كقطعة معطوبة في خط إنتاج، ويُتلَف حسب طقوس عبادية صارمة تشبه كوميدياها المقدسة مشاهد تطهير آثار الأطفال في “شركة المرعبين المحدودة”. هنا فقط، كل مختلِفٍ يصير مخالِفا (بالإذن من أدونيس).

الجنس حافز فردي لهدف جماعي هو البقاء، وهو في آليته يشبه الحوافز الإدارية التي تربط أهداف الأفراد بأهداف الجماعة. فرغبة الفرد الجنسية لا تسعى لبقاء النوع، بل لبقاء الفرد نفسه، لكن ذلك الهدف الفردي الأناني يحقق الهدف الجماعي. الجنس هو حيلة الفرد لتمتد حياته في جسد آخر، هو عملية استنساخ للجسد، وفي المجتمعات المحافظة يكون استنساخا للثقافة أيضا، أي أن الجنس هنا هو حفظ لـ “بيولوجيا” و”ايدولوجيا” الجماعة. لا يجوز لبيولوجيا المجتمع المحافظ أن تتلوث ببيولوجيا الآخر، ولا أن تتلوث ثقافته بثقافة الآخر، فالإستنساخ الجماعي يجب أن يتم تحت أشد شروط التعقيم صرامةً.

يميز المجتمعات المحافظة جهازُ مناعةٍ قوي يحطم كل خلية مختلفة في جسد المجتمع، ولأن الجسد (وخلاياه) يعيش أسباب تغيير ضخمة، فإن جهاز المناعة سيحطم جسده إن لم يكبح الجسدُ مناعتَه. موجة العنف الأخيرة هي من أعراض تغلب المناعة، أي أن الجسد – المجتمع حاول تحطيم نفسه بِنِيّة حماية نفسه.

المؤسسة الدينية هي جهاز مناعي في المجتمع، وإذا أردنا تغيير جسد فيجب ألا نوكل المهمة لجهازه المناعي. والمؤسسة الدينية هي ضابط الإستنساخ، لذلك تقبض بشدة على أهم أدواته: المرأة والتعليم والإعلام. إذا تحررت هذه المؤسسات من احتكار أي جهة، فإن مجتمعنا سيغادر مرحلة استنساخ لم تنقطع منذ عُرفنا عَرَبَاً.

الإرادة السياسية الحالية تدفع لذلك بتأن وإصرار، وستكون مرحلة “ما بعد الإستنساخ” قاسية علينا، إذ ستتكاثر الأشياء التي لا تشبهنا، وهذا تنكره القيم التي صنعناها في زمن الإستنساخ، وسنحتاج مرجعية ثقافية “ما بعد استنساخية” تقبل الإختلاف وتحميه.

ليتني أكون المستنسَخ الأخير..

© Copyright 2013, All Rights Reserved