تاريخ وأسطورة

28يوليو

مطالعة كتاب: الجنس والمجتمع في الإسلام

“الجنس والمجتمع في الإسلام. ضبطُ الإنجاب قبل القرن التاسع عشر” [١] هو كتاب يناقش فيه باسم مُسلَّم أدبيات منع الإنجاب عند المسلمين من الفقهاء والأطباء والصيادلة والأدباء، ويُظهر الكتابُ سمات موقف المجتمع المسلم تاريخيا وفرادته قبل القرن ١٩م. في هذه التدوينة، أوجزتُ محتوى الكتاب (أو ما رأيت إبرازه) وذيّلته. وبذا، أقاسمُ مُسلّٓمٓ التدونية؛ له المَتن ولِي الهامش!

مختصر الكتاب

لاحظَ إحصائيو سكانٍ غربيون صعودا قصيرا لأعداد سكانية غربية بعد الثورة الصناعية، وفسروا ذلك بـ “نظرية التحول” من مواليد ووفياتٍ مرتفعة قبل الثورة الصناعية، إلى مواليد مرتفعة (أو تقليدية) ووفيات منخفضة، ثم إلى مواليد ووفيات منخفضة منذ القرن ١٩. ولما نظروا لـ “الإنفجار السكاني” في العالم الإسلامي، أسقطوا النظرية عليه ووضعوه في مرحلة مواليد تقليدية او زراعية أو قبل-حديثة. ولم يشاؤوا الإلتفات لتاريخية انتشار ضبط الإنجاب عند المسلمين لأن أولئك المختصين فهموا الضبطَ رديفا للمجتمعات الحداثية. ولم يلحظوا أن تحوّل العالم الإسلامي ربما عاكس الغربي، إذ مارس المسلمون ضبط الإنجاب حين غيّبه الغرب، وغيّبوا الضبط حديثاً لمّا مارسه الغرب.

إجماع الفقهاء على إباحة منع الحمل (ممثلا بالعزل) لم يخالفه إلا ابن حزم الذي قال بنسخ رواية جُدامة عن النبي (“ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ”) للأحاديث المبيحة. وقد عدّد الفقهاء عِلَلَ منع الحمل في مجتمعاتهم، كحماية جمال الزوجة وتجنيبها خطر الولادة وحفظ السرايا من العتق.

وتكررت عِلّة دفع حرج عناء الكسب، فأيدها الغزالي وقال “قِلّة الحرَجِ مُعين على الدِّين”، وذكر الشوكاني أن من دوافع مجتمعه كان تجنب كثرة الأولاد. وهذا الإفصاح عن البواعث الإقتصادية مُلفت، إذ لم يظهر خارجٓ الإسلام مثلُه قبل أواخر القرن ١٨، في حملتَي جيرمي بينثام (لخفض الفقر الإنجليزي) وميلبليس [٢] (لمنع الحمل) [٣]. وضمّت عِلل الفقهاءِ الخوفَ من استعباد الأبناء، حتى أن الحنابلة أوجبوا منع الإنجاب في دار الحرب (ربما للمواجهات الإسلامية البيزنطية بشمال سوريا)، بل إن فقهاء مسلمين لاحقين أباحوه مطلقا في “سوء الزمان” أو “فساد الزمان”. [٤]

إستقرار المسلمين على إباحة منع الحمل، مقابل اتفاق اليهود والمسيحيين على تحريمه، جعل إباحته كليشه ثقافي. [٥] وقد أقام عمومُ الفقهاء حُكمَ الإباحة على قبول الزوجة الحرة بالعزل، إذ لها حَقَّي الإنجاب والمتعة. ولو أزلنا نقاش حق المرأة لما بانٓ العزلُ في متون الفقه.

ورأى الشافعية وحدهم جواز العزل بلا إذن الزوجة الحرة، بينما أكد الحنابلة على حَقّيها واشترطوا إذنها، ورفعوا شرط الإذن في دار الحرب. والأحناف الأوائل أشترطوا إذن الزوجة، ثم جاء بعدهم من أجاز منع الإنجاب بدون إذنها لسوء الزمان، وبذا أُعطِي سوءُ الزمان أسبقيةً على حق المرأة. والمالكية اشترطوا إذن الزوجة، وأجازوا لها طلب المال مقابل إذنها. واشترط الاثناعشرية إذن المرأة كذلك، وأجازوا تثبيت الإذن في عقد الزواج، وقضوا بدفع المال للزوجة عند العزل خلافا للعقد.

إعتمدَ المسلمون العلومَ لفهم النصوص الشرعية المتصلة بأطوار الجنين ومساهمةِ الوالدَين في تكوينه. ورأسَ تلك العلوم أبقراط وجالينوس (في الطب) القائلَين بوجود ماءٍ للمرأة يساوي ماء الرجل في تكوين الجنين، وأرسطو (في الفلسفة الطبيعية) الذي قال ان ماء الرجل يصنع الجنين من دم الطمث. وفي زمن جالينوس أُكتشف المِبيض وتأيّد ماءُ المرأة بقرينة جهلَها أبقراط وأرسطو [٦]، وبعد جالينوس صار “الأطباء” و”الفلاسفة الطبيعيون” خصمين يتصدّر خلافاتَهما موضوعُ الحمل. ولما واجه الفكرُ الديني الاسلامي آراء العلم في الحمل، لم يواجه جسدا متّحدا، إذ قدّم الطبُ عوناً كبيراً للأفكار الإسلامية عن الحمل، وأعطَى أبقراطُ الفقهاءَ السند النظري الأقصى لإباحة منع الحمل. [٧]

رَمَّ ابنُ سينا بيولوجيا أرسطو وأحصنَها على الجالونيسية، ففضّل فلاسفة المسلمين والغرب شروحه بدل كتب أرسطو. وضلّت الكتابات الشرعية الإسلامية الأقسى مخالَفةً للأرسطية، لاتفاق أبقراط والقرآن على تساوي مساهمة الوالدَين واتفاق جالينوس والحديث على أطوار الجنين، واستورط الأرسطيون (كأبي بكر الرازي) في تعقُّل الشريعة، بينما جنى ابن القيّم الجوزية (ولم يكن أرسطيّا) كُلَّ النفع من اتفاق الطب والشريعة [٨]، ورحّب بفرصة تأييد الوحي بمعارف دنيوية.

تصدّرت نظريةُ تٓساوي مساهمة الوالدَين حُججَ الغزالي لإباحة منع الحمل، ويصعب فهمُ إجماع الفقهاء على الإباحة بدون هذه النظرية، إذ لم يجعل الفقهُ لماءِ الرجل أو المرأة حُرمةً وحده، فهو “لا شيء” عند الغزالي و “غير يقيني” عند القرطبي قبل اتحاد المائين، والأقرب أن الغزالي والقرطبي إطّلعا على رأي الأرسطيين (كابن سينا) الذي يُعلي ماء الرجل ويراه حاملا لروح الإنسان.

إباحة الفقهاء لمنع الحمل فسَحت للأطباء والاُدباء نقاشه، فجمع الرازي في الحاوي ١٧٦ وسيلة منع إنجاب للجنسين، مثّلت ٨٠٪‏ مما سجّلته المدوَّنات العربية بعده. وفي حين خَصَّ الفقهاء العزلَ بنقاشهم، لم يعتني به الأطباء، ربما لأن الأسئلة المحيطة به شرعيةٌ وليست طبية. واختص الأطباء بالموجِبات الطبية لمنع الحمل، وحدُّوها بصغر المرأة او علّة في رحمها، وأوضح أبو الحسن [سعيد بن هِبة الله] الطبيب أن ما عناه أطباء العهد الوسيط بـ “الصغيرة” هي من تحت ١٥ عاما [٩].

وحتى بدايات القرن ٢٠ (قبل ابتكار حبوب منع الحمل)، ركّز الطرحُ الطبي على وسائل المرأة [١٠]، وهي وسائل موضعية (تعيق الإخصاب فيزيائيا او كيميائيا) إنحدرت من الطب العربي الذي قدّم المخزونَ الأكبر لوسائل المرأة. بل إن التركيز على هذه الوسائل هو سمة مميِّزة للطب العربي.

وقدّم الطبيب العربي اليهودي هِبة الله بن جُمَيع (طبيب بلاط صلاح الدين الأيوبي) منع الإنجاب في كتابه إرشاد المصالح، رغم تحريم اليهودية لـ “تدمير البذور”، مما يُظهِر أن منع الإنجاب كان رُكنا أساسا لمُتون الطب العربية مهما كانت قناعات المؤلف، فالموضوع كان مطلباً لمهنةِ الأطباء وجمهورِهم المسلم. ويبيّن ابن ميمون (الطبيب اليهودي لإبن صلاح الدين) الأمر أكثر، فقد قال بالقبح المطلق لتدمير البذور عندما وثّق الشرع اليهودي، لكنه نصح حاكمَه المسلم بالعزل. وبينما خلت الترجمة العبرية لقانون ابن سينا من شروحه لمنع الإنجاب، أبقتها الترجمة المسيحية اللاتينية، لكن متعلمي أوروبا (وأغلبهم من رجال الكنيسة) تجنبوا نقل حديثه إلى مؤلفاتهم عن كتاب القانون، وهكذا فعل ألبيرت الكبير. [١١]

لكن رسالة ابن البيطار في الأدوية المفردة تظهِر انحدارا لاحقا في عقلانية الطب العربي، فأغلب عقاقير منع الإنجاب من المأكولات، ولم يعرف الطب عقارا فاعلا كهذا قبل حبوب منع الحمل في القرن ٢٠. وتذْكِرة داود الأنطاكي تشهد أيضا على الإنحدار، إذ قدَّمت طلاسم سحرية لمنع الإنجاب، مما أُعتبر علامة لسقوط الطب العربي.

وأظهرت مؤلفات الباه العربية (كالروض العاطر) إسهابا في نقاش منع الحمل لم تألفه مثيلاتها الهندية والصينية، بل إن الكِتاب العربي الواحد ذَكرَ عن منع الإنجاب ما لم تذكره أدبيات الشبق الهندية والصينية مجتمعة.

ولا تعود وصفات كتب الباه لمؤلفات الطب، بل ترجع للتراث الشعبي. وخلافا لكتب الطب، تُغلِّب كتبُ الباه وصفاتَ الرجل على وصفات المرأة (كما يبرُز في عودة الشيخ إلى صباه)، وبِذا تُناقِض كتبَ الأدوية التي تكاد تهمل وسائل الرجل، ربما لأن مؤلفات الباه كتبها الرجال للرجال، بينما النساء يرجعن للصيادلة.

كما يتكرر ذِكرٌ عفويُ لمنع الإنجاب في رسائل الأدب، ورأى الجاحظ أن منع الإنجاب سِمة للإنسان تميزه عن باقي الحيوان. وتصطفُّ الرسائل مع كتب الباه في تفضيل وسائل الرجل، وتفضيلُ الآداب الشعبية لوسائل الرجل (عكس كتب الطب والأدوية) هو إفصاح عن رغبتها في حُكْم منع الإنجاب لرجال مجتمعها.

وتُوافِق كتبُ الباه كتبَ الأدوية في الأخذ بعقاقير التراث الشعبي التي لم تعرضها كتب الطب، ولم تكن هذه العقاقير جديدة، لكن الأطباء انتقوا ما وافق تجربتهم من كتب الأدوية. وهكذا حالُ وصفات السحر، فالحاوي ذكرَ وسيلةٓ سحر واحدة ونعتها بالبدعة، بينما خلى كتابُه المنصوري من السحريّات. وكمُتون الطب، خلت كتب الباه (للتيفاشي والنفزاوي وابن الجوزي والنويري) من وصفات السحر.

وخلت كتب الفقه من الوسائل السحرية والعقيمة، وتظهر قيمة تاريخية لهذه الكتب عند مقارنتها برديفاتها الغربية المكتوبة قبل القرن ١٨، والتي سادتها وصفات الأكل والسحر.

وإباحة منع الإنجاب لا تثبت ممارسته، بل تثبتها آثار انتشار الممارسة، كنقاش الفقهاء لإنكار ممارس العزل لأبوّته، ونقاش حق المرأة، والإهتمام البالغ بوسائل الرجل في الأدبيات الشائعة ككتب الفقه والباه.

وضبط الإنجاب قد يفسِّر انحدار أعداد سكان مصر والشام الذي استمر للقرن ١٩ وأرجعٓه باحثون للأوبئة والفيضانات والحروب. وتٓظهر فرادة مصر بملاحظة التعافي السريع لأعداد سكان أوروبا بعد الطاعون وتضاعُف سكان الصين ٦ مرات في ٤٠٠ عام بعده، بينما تأخرت مصر. ربما تواطأ ارتفاع وفيات المواليد مع انخفاض الخصوبة، فموجات الطاعون (التي كانت أشد فتكا وأكثر تكرارا مما أصاب أوروبا) [١٢] أضافت لمآسي زمنٍ نعته أهله بالسوء والفساد، مما جعل الفقهاء يبيحون العزل بلا شرط، كما في كلام ابن الهمام والطهطاوي وابن نُجيم وابن عبدين.

حاشية المدوِّن

١)

– Musallam, Basim. Sex and Society in Islam: Birth Control before the Nineteenth Century. Cambridge University Press, 1983.

٢) هما الفيلسوف جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) والمصلح الإجتماعي فرانسيس بليس (١٧٧١-١٨٥٤)، والإثنان ناصرا المالتوسيه المُحدَثة، وهي حركة بدأها بليس وأخذت بمخاوف الإقتصادي والقس الإنجليزي توماس مالتوس (١٧٦٦-١٨٣٤) من تكاثر السكان، لكنها خالفته بالدعوة لموانع الحمل بدل تأخير الزواج.

ورأى مالتوس أن أعداد البشر تجاوزت قدرة إنتاج الأرض الغذائية، وإن لم نخفض التكاثر بتأخير الزواج فسنبقى في دورة حتمية من زيادة السكان ثم خفضه بـ “البؤس والرذيلة” (كالأمراض والهجرات والحروب). ومقولة ذُروةِ الموارد هذه (والتي ألهمت ذُروةَ النفط) هي من النظريات التي لا يُشك في علميتها، لكُثر ما دُحضت!

واحتُجز ميل ذو السابعة عشر بتهمة الترويج لدعوة بليس لموانع الحمل. ودعت مطويات بليس النساءَ للعزل بقطعة إسفنج، وربما جاءت الوسيلة من فرنسا حيث انتشرت لتحديد النسل. وذكر العرب هذه الوسيلة التي تطورت لاحقا لتصبح اللولب (IUD)، ويلاحظ مُسَلَّم أن كل وسائل منع الحمل التي عرفها الغرب حتى القرن ١٩ كانت عند العرب.

– Malthus, T. R. An Essay on the Principle of Population. Dent, 1967.

– Cook, H. The long sexual revolution: English women, sex, and contraception; 1800 – 1975. Oxford: Oxford University Press, 2007.

– “The Place of John Stuart Mill and of Robert Owen in the History of English Neo-Malthusianism”, The Quarterly Journal of Economics, Volume 42 (August, 1928), Pages 627–640.

٣) رأي مُسَلَّم هذا يعارض مباشرة قول نورمان هايمز “لا أذكر رؤية تبرير اقتصادي [لمنع الحمل] قبل دفاع جيرمي بينثام (١٧٩٧) عن استعمال الإسفنجة لخفض نسبة فقراء الإنجليز، و حملة ميل-بليس (١٨٢٣-١٨٢٥)”.

ذكَرَ هايمز هذا في كتابه “التاريخ الطبي لمنع الحمل“، عند الاشادة بذكر الطبيب العربي علي بن عباس للدواعي الطبية لموانع الحمل في “الكتاب الملكي”، فنورمان رأى نُدرةَ نقاش الدواعي في التاريخ المبكر لموانع الحمل وغيابَ الداعي الاقتصادي. وامتدح نورمان دعوة علي بن عباس لإبقاء وصف موانع الحمل بين الأطباء وتحت إشرافهم لضبط العواقب الطبية.

ورأى هايمز غياب الدوافع الإجتماعية أيضا قبل بينثام وميل-بليس، وهذا موطن خلاف ثاني مع مُسلَّم الذي قال بأسبقية الحنابلة، عندما أوجبوا منع الإنجاب في دار الحرب.

وسيماء بحث مُسلّٓم تُبطِن خلافا آخر في شأن الدوافع، فمُسلَّم أبرز دواعي الفقهاء القانونية والإجتماعية، وهي غابت عن كتاب هايمز المحدود بالتاريخ الطبي. وقد رأى مُسلَّم تقاسم مهامٍ بين فقهاء وأطباء مجتمع الإسلام، فالفقهاء اشتغلوا في الدواعي القانونية لموانع الحمل، بينما اشتغل الأطباء بالدواعي الطبية في الحدود القانونية التي خطّها الفقهاء.

٤) وفوق ما تظهره النصوص من دوافع الحاجة لطُرق تنظيم نسل، يبدو أن بروز موانع الإنجاب عند المسلمين دفعَته حماية الإسلام لأنفس الأجنة والمواليد، مقارنة بأحوال المجتمعات القديمة. ففي المجتمعات التي أطلقت التصرف في الأجنة (بإطلاق الإجهاض) والمواليد (بالقتل او النبذ)، لم يجد الناس حاجة لغير هذه الطرق الحاسمة.

٥) في عمله المهم عن تاريخ تشكّل صورة الإسلام في الغرب، قدّم نورمان دانييل منع الحمل ضمن القيم الجوهرية المخالِفة في الهوية المشرقية-الإسلامية كما رآها الغرب، وبذا يفهم مُسلَّم أن دانييل يرى ضِمنا أن رؤية الغرب تلك ساهمت في تعريف الغرب لهويته النِدّ، ليصير رفضُ موانع الحمل ركنا فيها.

– Daniel, Norman. Islam and the West: the Making of an Image. The University Press, 1962.

٦)  أسس الجالينوسيون من اكتشاف المبايض التصورَ المعاصر بأن هيكل الجهاز التناسلي متشابه عند الجنسين، لكن الأرسطيين لم يجدوا في اكتشاف المبيَضين ما يثبت وظيفتهما التناسلية، فالأرسطي ابن رُشد (مثلا) دافع بحجة داروينية قائلا “وأما الأنثيان اللتان يزعم جالينوس أنهما توجدان للمرأة، فيشبه ألا يكون لهما تأثير في الولادة. وليس ذلك بغريب: فإن الثدي في النساء لمكان الولادة، وليس لها في الرجال هذه المنفعة”.

وما حسمَ مذهبٌ الجدلَ لنفسه، “فليسَ عندَهم عليهِ دليلٌ إلا الأخلقَ والأولى والقياس” (بلفظ ابن القيّم). وظلت نظريات الإنجاب بالمئات، حتى حدّها اكتشاف المجهر والحيوان المنوي في القرن ١٧، ثم حسمَ الأمرَ فهمُ صلة الحيوان المنوي بالحمل في القرن ١٩، كما لخّص هايمز.

– إبن رُشد. الكُليّاتُ في الطب.

– إبن القيّم. تُحفة المودود بأحكام المولود.

٧) عن مساهمة الوالدَين في الإنجاب، قال بعض اليونانيين بمذهب المائين (أي أن للأنثى ماء كالذكر)، وقال غيرهم بماء واحد (من الذكَر وحده). وأخذ الطبيب أبوقراط بالمائين، ثم جاء الفيلسوف أرسطو وناصر مذهب الماء الواحد، ثم أكتُشفت المبايض بعد أرسطو وجاء الطبيب جالينوس مؤيدا للمائين ومستدلا بالمبايض.

وتفسيرا للصفات الوراثية، ساد التفكيرَ نظريةٌ عامة منذ قدماء اليونان حتى بعد داروين، وسمى داروين النظريةَ “شمولية التخلق” (pangenesis) ووافقها، وتجتمع نُسخ النظرية على أن ماء الإنجاب يجتمع من أجزاء الجسد ليحمل صفاتها للجنين. ونسخة أبوقراط من النظرية تقول أن ماء الذكر والأنثى تُنتَزع أجزاءه من أعضاء الجسد، ولذا تصبح مادة الجنين مجموعا لتلك الأعضاء وشبيها لها.

لكن أرسطو قال أن ماء الرجل لا يُنتزع من الأعضاء، بل هو فائض دم ناضج قبل دخوله الأعضاء. وظن الطب القديم أن الدم هو غذاء ناضج ذو طبيعة واحدة قادرة على الإختلاط بكل جزء في الجسد والتشكل بهيئته، و بتعبير ابن سينا “أن الغذاء يصير دما أولا ومادة مشتركة، ثم تكتسبُ الإختلافَ بعد ذلك”، وهكذا كان فهم الأرسطيين للمني الذي رأوه من فائض الدم الناضج وشبيها له بكونه “مادة مشتركة، ثم تكتسب الإختلاف بعد ذلك”، مثل فهمنا المعاصر للخلايا الجذعية في الأجنّة.

– إبن سينا. الشفاء، ج٣.

٨) ناصرَ ابنُ القيّم بيولوجيا أبقراط ضد أرسطو، اذ قال بالمائين ونسخة أبقراط من شمولية التخلق، لكن هذا الموقف الجوهري الموفِّق بين الطب والشرع جاء مشوبا بنقائضه. 

خالف ابن القيّم منهجه ورأيه عند تفسير كون “الولد للأب حكماً ونسباً” بالقول “والأصل هو الذكَر فمنه البدر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها”، إذ خرج عن عادة عرض آراء علوم عصره والترجيح بينها، وقال بما يخالف أبقراط والنصوص الموافِقة. وتصوير الجنين كبذرة الذكَر في أرض الأنثى يُغفل أن نبتة المولود من بذرتين كما بيّن ابن القيّم من الشرع والطب. والتصوير يعارض حتى مدرسة أرسطو المقابلِة، فهي لا تقول أن الأنثى وعاء لبذرة الذكر او مادة الولد من الأب، بل ترى أن مادة الولد من المرأة وحدها ومنيّ الرجل يشكّل تلك المادة “كما يصنع النجار الكرسيَّ من الخشب”. إن مثال البذرة والأرض يعارض المعرفة الطبية والفلسفية في زمن ابن القيّم، ويناقض موقف ابن القيّم الذي جاهد له.

والملفت أن هذه النسخة الحادة من مذهب الماء الواحد تطابق تعبير اليوناني التراجيدي إسخيلوس، وهو ممن قالوا بالماء الواحد قبل أرسطو، كما في مقطع أوريستيا المعروف:

The woman you call the mother of the child

is not the parent, just a nurse to the seed,

the new-sown seed that grows and swells inside her.

The man is the source of life-the one who mounts.

يبدو أن مثل هذه الفكرة القديمة كان منتشرا زمانا ومكانا، ويُلتَقط لحاجة ربما عارضت مذهب قائلها.

وأخذ ابن القيّم بنسخة أبقراط من شمولية التخلّق لتفسير الصفات الوراثية، وفي هذا نُصرةٌ أخرى لأبقراط ومدرسته ضد أرسطو ومدرستِه. بل ونقَل شمولية التخلّق لمقاربةٍ ممتعة لخلق الإنسان الأول، مبينا لغويا أن كلمة سُلالة (في “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ” و“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ”) تعني شمولية التخلّق في الحالين، باستلال مادة المني من أجزاء جسد الإنسان واستلال الطين من أجزاء جسد الأرض.

وبذا أخذ ابنُ القيّم شمولية التخلّق لأبعد مما أراده منشؤوها، إذ ضم خلق الإنسان الأول ولم يكن هذا هاجسُ من أرادوها تفسيرا لنقل الصفات للأبناء، فتبنى النظرية وقدمها نسقاً دينيا شموليا للخلق بالقول “ولذلك سماه الله سلالة والسلالة فعالة من السَّل وهو ما يُسَلّ من البدن كالبخار كما سمى أصله سلالة من الطين لأنه استلها من جميع الأرض كما في جامع الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم ‘إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض’ “، وهذا من ولع الإنسان بالأنساق الشمولية.

ورغم تبنيه لمذهب أبقراط في شمولية التخلّق إلا أنه أخذ رأيا معارضا أيضا بقوله “أما الخصيان فلتوافر المني على أبدانهم يصير دمهم غليظا بلغميّا” وهذا من قول أرسطو بأن المني هو طعام فائض، ولذا يوجد عند الخصيان كغيرهم، فهو لا يحتاج حرارة الشهوة ليُستَل من أجزاء الجسد كما قال أبقراط. وتبعا لمذهب أرسطو، “المني فَضْلةٌ أعدّتها الطبيعة للدفع كسائر الفَضْلات” بلفظ ابن رشد، وبقائها يجعل الدم بلغميا مثلها.

– إبن القيم. التبيان في أقسام القرآن.

– Fagles, Robert. Aeschylus, the Oresteia: Agamemnon, the Libation Bearers, the Eumenides. Penguin Books., 1977.

٩) وحظر أطباءٌ حملَ الصغيرة حتى عند غير العرب، ومثّلَ هايمز لذلك.

١٠) فقبل القرن ٢٠، لم يعرف الطب أداة منع حمل نافعة إلا عوازل الأنثى، فاختارها ناشطوا المالتوسيه المُحدَثة لتولية المرأة على ضبط الإنجاب. ولما ظهر اللولب والعازل الذكري وحبوب منع الحمل، ظل رجاحُ وسائل المرأة، وزاد رجاحَها ذمُ النسويات لما هو ذكوري.

١١) تلاحظ مونيكا جرين أن الغرب المسيحي ترجم نصوص الأطباء المسلمين عن منع الحمل والإجهاض كاملة، رغم مخالفتها لمواقف قطعيّة مسيحية. ولم تجد جرين إستثناءً إلا تجنب قسطنطين الأفريقي ترجمة وصْفات الإجهاض لـ ابن الجزار.

كما تلاحظ جرين أن من كُتُب سِيَرِ قسطنطين الأفريقي ما طمس ذِكر كتاباته عن طب المرأة وطب الجنس، ففي زمن قسطنطين كانت أوروبا هي العالم الثالث، والعلوم الغربية المؤسلَمة عادت بمواقف شرعية عن الجنس ومنع الحمل والإجهاض تخالف جداً [أي أكثر تسامحا] ما كانت عليه الجماعة المسيحية المستقبِلة لتلك المعارف. وتضيف جرين أن مما فاقم التوتر بين العلم والدين في أوروبا كونُ لُب التراث الفكري للعلوم الأوربية اللاحقة جاء من جماعة حضارية وعرقية تختلف جوهريا عن أوروبا.

– Monica H. Green, “Constantinus Africanus and the Conflict Between Religion and Science,” in The Human Embryo: Aristotle and the Arabic and European Traditions, ed. G. R. Dunstan (Exeter: Exeter University Press, 1990), pp. 47–69.

١٢) يَحتمل مُسَلَّم أن المصريين حَدّوا الإنجاب بعد الطاعون، إضافة للأسباب التي رآها ستيوارت بورش وغيرُه من دارسي تأخر تعافي مصر مقارنة بالغرب.

قارن بورش إنجلترا بمصر ولاحظ تبعات إقتصادية حسنة بإنجلترا بعد الطاعون (كارتفاع الأجور وتنوع المحاصيل وانخفاض الأجار) ونقيضها في مصر. ورأى في مركزية إدارة الري المملوكية ومَحليّة مثيلاتها بإنجلترا السبب الأساس، ولاحظ أن مصر الرومانية تعافت مثل إنكلترا من وباء وقع وكانت إدارات الري محلية. 

وقد أحصى مايكل دولز ٥٦ وباءاً أصاب المشرق في نحو ١٦٠ سنة، ٣٤ منها ضمَّ مصر. ودعت الكثرةُ دولز للقول بأن الوباءً أقامَ في المشرق.

– Borsch, Stuart. The Black Death in Egypt and England, a Comparative Study. University of Texas Press, 2005. 

– Dols, Michael Walters. Black Death in the Middle East. Princeton University Press, 1977.

16ديسمبر

عن الفقيه والقصر والتمييز

-١-
مصطلح “فَقِيه السلطان” يَغفل ضرورة القصر في تاريخ نشوء وحفظ الإبداع، فالفقاهة وباقي مهن الإبداع (الآداب والفنون الجميلة، العمارة، المنطق، الفلسفة، ..) لم يقدر أو يرغب على تمويلها إلا القصر (ومحيطه). ففي تلك الأزمنة، لم يوجٓد فائض مال إلا في القصر [١]، وكان ممولَ وزبونَ المبدِع. والمبدِعُ يلتزم بشروط الإنتاج عند مموله.

ضم َّعلي الوردي النحوَ والمنطق لمنتجات “الطبقة الفراغية” [٢] (عِلية المجتمع)، وأهمل الفقه وهو منهم. نشأ وتطورٓ الفقه بشروط (تعليمية، تقنية، اقتصادية، بيئية، ..) لم توجد إلا في دوائر ضيقة ميسورة في المدن القليلة آنذاك، واستمر ضِيق هذه الدوائر حتى ظهور الأشكال المعاصرة للتقنية والإقتصاد والدولة.

“المثقف الشحاذ” هو مصطلح طريف آخر، بصياغته وما تحمِل من إستعابة. المبدع المسترزِق القصرٓ ليس نسقاً ثقافيا عربيا (فقط) [٣] ولا معيبا، بل هو عالمي وحٓسٓن بذاته. لطبقات اليُسر القليلة في الإقتصادات القديمة فضلُ تنشأة ورعاية صنوف الإبداع، رغم إساءة هذه النشأة لانتشار المعارف المعاصر. وبعد الإنتشار الحديث لفائض المال عند الأفراد، وجد المبدعُ (الفقيه، الأديب، منتج هوليوود، المهندس، ..) قطبٓ مال غير القصر وأضخمٓ منه وقادراً على تمويلِ المبدع وإثراءِه، وصار المبدع ينتج للقطب الجديد أيضا وحسب شروطه (الشعبية). أي يمكن الإدعاء أن “شحاذة” المثقف باقية، وتوزعت بين القصر والشارع! إن انتشار فائض المال الفردي أعاد تشكيل المنتجات، ومنها منتٓج الفقيه.

إن النزاع على الفقه اليوم لا ينفصل عن النزاع على الفن وغيرهما، فهذه الآداب نشأت وتشكلت بطباع القصر في أغلب تاريخها، قبل أن يبرزٓ زبون ينازِع لتطويعها نِدّٓاً لما نشأت عليه، ويُلبسها ذوقه ومنافعه. إن الثقافة الشعبية المعاصرة في الفنون والآداب ليست سٓقطة ذوق، بل خروجٌ من زُخرف القصر وإعادةٓ تشكّلٍ لقطب الشارع وشروطه، بعد أن برزت للأفراد سلطة إقتصادية ومعرفية على الإبداع. [٤]

ثم أن القلق من تلوث الفكرة (وخاصة الدينية) بالمال ليس أعظم أخطارنا بعد ثورة الصناعة، فقد جعلت الصناعة للتقنية (وهي المحسوس من الحضارة) أثراً كونيا للضر والنفعِ قد يجاوزُ حدود حركة الفكرة (فالتقنية هي الوسط الذي تظهر وتتحرك وتتكاثر فيه الفكرة خارج أذهاننا)، ومع عِظم اثر التقنية تعظُم تبعاتُ انحيازها لمموليها ومخالفتُها لأخلاقياتها. [٥]

– ٢ –
التشريع (منتَج الفقيه) يحتاج مؤسسة سياسية، فالفتوى (في أي دين) هي مثل نظام المرور وتعليمات النوم المبكر في العائلة، إذ تفصِح عن تراتبيةٍ واستحواذٍ على الإكراهِ وشروطِ ضٓمٍّ وطرد (ولاء وبراء)، أي مؤسسة سياسية. [٦] وهذا مما قرّب الفقيه والسلطة.

ونعني بالسلطة كل مركز سيادة في تنظيم المجتمع، في البيت وخارجه، ومنها الأقطاب الناشئة. ومواقف هؤلاء المتنافسة على الإستحواذ على الفقه قد تعود لأحد هذين الهدفين:

أ. الإستحواذ على الحق في الإكراه، وبالهيئة التي يقدمها الفقه. ومن هؤلاء جماعات طائفية قديمة وحديثة ببرامج سياسية.

ب. نزع الإكراه من الفقه، بتبني قراءات مقابِلة. وهؤلاء مدفوعون بمبادىء فردانية حديثة، وبرنامجهم سياسي أيضا، حتى وإن نفوا عن نفسهم هذا الطموح، فهم سياسيون بحجم ما يودون تعويضه في مشروع نِدّهم السياسي.

إن النزاع الطاغي على الفقه اليوم هو نزاع على السلطة (ونمطها)، أي أن موضوعه السيادة لا الهداية.

– ٣ –
محظوظ من كان ساكتا أو ضعيفا، فالساكتُ ينقد قولٓ المتكلم والضعيفُ ينقد فِعلٓ القوي. لكن الكلام لا يقارن إلا بمثله وفي زمنه، وكذلك الفعل. مقارنة متكلمَين أو فاعِلٓين هي ما يفرّقهما أو يظهرهما توأمان في رحم حضاري واحد.

لكن مقارنناتنا التاريخية اعتادت ملىء فراغ الكلام أو الفعل بمثاليات حديثة (أي مقارنة “واقعهم القديم”بـ “نموذجنا النظري الحديث”)، واعتادت نُصرة الغياب على الحضور.

– ٤ –
يغالط من يحتكر المظلومية (ومن ثَمّ قيمتها السياسية) في تاريخنا أو تاريخ غيرنا، ففي أزمنة البؤس والتوحش وطبقات القهر تلك، لم ينجو أحد!

ويخطىء من يظن أن الظلم يُصلح المظلومٓ، أو أن مظلوما (ما) كان قادرا (دون غيره) على تعلم العدل، وكأن مفهوم العدل الحديث كان فكرة دانية لكل مظلوم.

ولم ينجو أحد آنذاك من تشريع أحكام القهر والعزل والفناء ضد الآخر الفكري أو الجسدي. وعادة ما كان نصيبُ الآخر الفكري من خارج الجماعة العزلَ ونصيبُ الآخر الداخلي (أي داخل الدين أو الطائفة) الفناء، وكأن اللُّوثة خارج الجسد يكفيها الإعتزال وآفة الجسد دوائها البتر.

فقه الآخر هذا لم تختص به جماعة واحدة من طائفة او دين، كما لم يعطي تطبيقُه إلا السوء. تجارب تنقية الجماعة هي مثل بتر سالب مغناطيس، إذ يخلفه سالبٌ آخر في جسد اصغر وقطبٓين أضعف.

– ٥ –
يثور الإمام ليؤسس دولة ويصير خليفة، ثم يجاهد ليوسّعها ويحميها. ومن انقطع تاريخه عند الإمامة انقطعت أدبياته عند الثورة.

أنجحُ مشروعاتنا الإحيائية هو التأصيل الشرعي للإكراه ضد المجتمع والدولة، والأخير تأصيل لتراثين وقطبين: ثورة الإمام وجهاد الخليفة. من الخطأ الدعوة لوقف ترويج أدبيات جهاد الخليفة وحدها، إذ علينا وقف ترويج أدبيات ثورة الإمام أيضا، إذا أردنا مواجهة تأصيل صراع الخليفة ونائب الإمام.

هوامش:
١. من هذا ملاحظات ابن خلدون ومستكشفي آثار الرأسمالية في الاقتصادات القديمة (كماكس فيبر).

٢. هذه ترجمة علي الوردي لمصطلح Leisure Class، وسمات الطبقة (كما أخذها من “نظرية الطبقة الفراغية”) ألهمته وصارت ثالثة آثافي آعماله. والركيزتان الآخرتان هما طوبائية العقيدة (من “العقيدة وطوبى”) وثنائية البدو والحضر الخلدونية. في مواطن كثيرة، بقى الوردي موطِّناً ومشيْعاً للأثافي الثلاث.

٣. لا أظن أن نسٓقٓي “المثقف الشحاذ” و”الفحل” من مفرَزات الشعر او الثقافة العربيّتين، بل هما صنيعة تنظيم اجتماعي كان واسع الحضور عالميا. وقد أدوّن يوما عن نسٓق الفحل.

٤. من ذلك الأغاني والأطعمة السريعة والتصميم الحديث. منتجات الثقافة الشائعة (pop culture) النابذة لبذخ المنتَج وطقوسه ليست هبوطا في الذوق بل توسيع للتعبير عن هوية طبقة اجتماعية لم تملك سابقا هذا القدر من السلطة على الانتاج. ومن الخطأ تفضيل الفنون والآداب السابقة باعتبارها الإبداع المحض، بينما كان دافعها هاجس طبقي لهوية متعالية.

٥. “إعادة تعريف الحدود” هو من أهم آثار التقنية (خاصة الحديثة)، ومن هذا حدود قدرات ونتائج أخطار أخلاقية (moral hazards) غير مسبوقة تاريخيا في الحرب والسلم (كالسلاح والتلوث والتجسس والإهمال الهندسي الخ). مثلا، الإنهيار المالي العالمي في ٢٠٠٨ هو أساسا صنيعة تقنية، فضخامة المؤسسات المالية وترابطها وتعقيد منتجاتها هي نتيجة تقنية.

وإحاطة التشريع بتطور التقنية (للحد من مخاطرها الأخلاقية) تبقى متأخرة، لتفاوت المشرِّع والمشرَّع له هيكليا. تحديات حدود التقنية وتأخر استيعابها تظهر حتى في التشريع الفقهي، ومن الخطأ تقديمها كخصوصية فقهية.

٦. تُرجع الفكرة لماري دوغلاس في “الطهر والخطر”.

5يناير

المجتمع الأبوي ومفاهيم مصاحبة

هذه التدوينة من تشجيع حوار جميل تطرّق للبطريركية (الأبوية patriarchy) كتنظيم اجتماعي، وسأحاول هنا تعريف المصطلحِ وأفكارٍ متصلة به، بإيجاز قد اتوسع فيه مستقبلا.

الأبوية (كترجمة سائدة للبطريركية) هي نوع من تنظيمات المجتمع، يكون فيه الذّكَر السلطة الاساسية، ووصيّا على المرأة. وعادة ما يكون الذكرُ الوصيُ الأبَ او الزوجَ او الأخَ او الإبنَ، فتُلحق المرأةُ اجتماعيا وقانونيا به. وهذا التنظيم يمنع وجود امرأة بلا وصاية، ويعامل ذلك كمُنكر.

لغويا، الكلمة الانجليزية منحوتة من “حكم-الأب”، والأب (هنا) ليس أب عائلة، بل أب عِرق بشري (كإبراهيم لبني اسرائيل في السرد التوراتي) كرمز للحضور الذكري الطاغي في المجتمع، فالمصطلح استسقته الإناسة (anthropology) من التوراة في زمن كانت معارفُ طريّةٌ تهتدي بالتوراة كمؤرخٍ صادق وشاهدٍ وحيد لفترة تاريخية، وبقى المصطلح (وغيره) كوليد علاقة حميمة منتهية بين التوراة والعلوم.

التنظيم الأبوي ينزع من المرأة (كقاصر) حريات تصرف (كالتعليم والزواج والعمل والتنقل والتملّك وإدارة المُلك) ويعطيها للوصي الذكر، ويشرّع امتيازات عديدة للذكر. حدود قصور المرأة وسلطة الوصي اختلفت بين المجتمعات والأزمنة، لكنها تجتمع على منع المرأة من مستوى سلطة الرجل، ممثلة في المعرفة والملكية والمنصب.

الأرجح أن الأبوية كانت تنظيما مشتركا في كل المجتمعات والأزمنة، ويغيب الدليل على مجتمع او مرحلة إنسانية أمويّة (متريركية matriarchy)، بمعنى أن سلطة المرأة (كجنس) علت الذكر (كجنس). هناك مجتمعات أمويّة بمعنى إنتساب الأبناء للأم، لكن تلك الأم كانت تحت وصاية ذكر. وهناك لحظات حكمت فيها نساء، لكن في مجتمعات (وبشروط) ذكورية، كما برز دائماً أفراد من جماعات مقهورة تحت شروط جماعات مستبدة.

ومثل تمسّك نسويّات (كنوال السعداوي) بمرحلة أمويّة رغم إقلاع الإناسة القديم عنها، مازال يُقال أن “المرأة في الديانات الوثنية كانت أفضل من الديانات التوحيدية”، وقد يوظَّف هذا الخطأ لتجميل موضة فكرية صاعدة. يأخذ هذا الرأي بصورة المرأة في أساطير وآلهة مجتمعات قديمة، وقد يضيف شهادة الأعمال الفنية (كالمنحوتات). وهو ادعاء أنتجته مدرسة الأساطير والشعائر، التي سادت في بدايات الإناسة وانتمى لها روّاد عديدون. ورغم انسحاب هذا المنهج، مازال طاغيا على الباحثين العرب (كفراس السوّاح).

رأت تلك المدرسة أننا نستطيع فهم تنظيم وتغيّر مجتمع بالتوكّل على شهادة أساطيره وشعائره، لكن ثبت لاحقا قصورُ ذلك في موضوعنا وغيره، فصورة المرأة في الأساطير والآلهة (والأعمال الفنية) قد تناقض واقعَ تشريعات الدولة وممارسةَ المجتمع، وباضطراد ملفت. كما أن العديد من الأساطير والملاحم هي نصوص أدبية، وقَلبُ الواقع كان من أدواتها الجمالية. (وقد نجد تناقضا مشابها بين صورة المرأة في أدبيات مجتمعنا الأبوي وواقعه، ومن تجليّات ذلك صورة المرأة الملكة في مجتمع يحرّم ولاية المرأة.)

لم يتراجع بطش الأبوية لنصف البشر إلا في العصر الحديث، وكانت قبلها الشكل الوحيد للمجتمعات البشرية، بكل أعراقها ومعتقداتها، ومنذ أقدم الأدلة الأثرية، ولم تكن أبدا خصوصية لمجتمع او عقيدة. فإذا نظرنا لمسائل أفرزها ذلك التنظيم (كالولاية والتجهيل والعزل وحتى الوأد) فإننا نجد أمثالها في حضارات أخرى، كالعراق واليونان القديمَين. وخطأ أن نحمّل مجتمعا أو دينا مسؤولية تأسيس (أو عبء بقاء) النظام الأبوي المكلف إنسانيا.

إذا كان في خصوصيتنا خصوصيةٌ فليست حال المرأة، فهذا الحال نمى منسجما مع أقرانه في مجتمعات اخرى، ولم ينفعه انسجامه (آنذاك) ليكون رمز هوية ومواجهة للآخر المتخيَّل في الغرب، فالغرب شاركنا وضع المرأة القديم الذي أبقيناه لخصوصيتنا. وليس من خصوصيتنا (كذلك) أدوات تبريره، فقد شاركْنا الغربَ التبريرات، التي منها قراءة غائية للنص لتفسير وترسيخ مكاسبنا المعاصرة.

21سبتمبر

ترجمة: لبنان، الحشيش والحرب

هذه ترجمة لمقاطع من كتاب مارتن بُوث “القِنَّب في التاريخ” عن تاريخ نبتة الحشيش:

كان لبنان المزوِّد الأخصب للحشيش بالمنطقة في الستينات والثمانينات، رغم الحظر الرسمي للحشيش. كان الحشيش اللبناني يُميَّز بتعبئته في أكياس بيضاء من القطن او الكَتّان، وتُختم الأكياس بعلامات تجارية بسيطة كالأسد أو النجمة والهلال أو شجرة الأرْز، وعلامة الأرْز مثّلت أفضل حشيش عند الغرب وعرفوه بالذهب اللبناني.

منذ بداية الخمسينات، كان لبنان وسوريا ينتجان معاً ٣٠٠ طن حشيش سنويا، بينما كان المستهلكون من السكان أقل من ١٪ في ١٩٧٦. كما كان شائعا في المجتمعات الاسلامية، لم يدخن الحشيش إلا الرجال، وكانوا يدخنون بالنارجيلة وفي السر.

منطقة الزراعة الرئيسة كانت وادي البقاع، حيث أقامت عشائر الدنادشة [الشيعية] مجتمعا زراعيا. حدثت محاولات في منتصف الستينات لجعل الدنادشة يزرعون محاصيل بديلة كعبّاد الشمس، ولم يتحمس المزارعون. حتى مع دعم الأسعار، فضلوا القِنَّب الذي استهلكت زراعته جهدا ومالاً أقل. استمرت الزراعة، أحيانا بين حقول نبات عبّاد الشمس الطويل الذي ستر المحصول الحقيقي عن الجميع إلا المراقب من الجو.

تجارة الحشيش محلياً و (الأهم من ذلك) للتصدير أكسبت عدة فصائل دينية وسياسية أموال كثيرة، في بلد كان مقسَّما إجتماعيا وعرقيا. عندما اندلعت الحرب الاهلية بين المسلمين والمسيحين في ١٩٧٥، كان عند الجماعات المقاتلة عتاد حربي كبير. وبعدما سيطرت الحرب وانهار الاقتصاد، صار الحشيش مصدر الدخل الحقيقي الوحيد. زراعة الحشيش صارت عمليّاً البند الوحيد في الناتج المحلي الاجمالي، وموّلت تجارة السلاح والقتال.

كان التصدير اساسيا، وجزءٌ مُعتَبرٌ منه ذهب لمصر. والكثير هُرّب للغرب، خاصة أوروبا. مزارعوا القِنَّب الشيعة (وهم من المتعصبين للاسلام) كانوا أيضا يبيعون الحشيش لإسرائيل، العدو المقاتل لرفيقهم حزب الله، الجماعة العربية المسلحة التي حاربت سعياً لدولة فلسطينية عربية.

وكشف مقال في صحفية التايمز في ١٩٩٦ خطة للموساد الإسرائيلي لشراء حشيش لبناني وتوزيعه في مصر بعد حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧. رُمِزَ للعملية بـ لاهاڤ (أي الشفرة)، وباعت حشيشاً لتجار مخدرات مصريين قرب قواعد للمجندين. كان الغرض إضعاف الجيش المصري. واستمرت عملية الشفرة طوال الحرب الإهلية اللبنانية وبعد انتهائها (في ١٩٧٩) بفترة، وبالتالي كانت اسرائيل مسئولة عن تمويل الجماعات المقاتلة قبل بدء الحرب الاهلية، وإطالة تلك الحرب، و (بشكل غير مباشر) تمويل القتال جزئيا، و (في نفس الوقت) العمل في تجارة المخدرات الدولية، مخالِفةً الإتفاقية الوحيدة للمخدرات من الأمم المتحدة. ولأن اسرائيل إختارت إهمال عدة قرارات من الامم المتحدة بالنسبة لحقوق العرب الفلسطينين، وتجاهلت اتهامها باعتداءات وحشية ضدهم، فإن إهمال الاتفاقية الوحيدة لم يكن أمرا عظيما.

في ١٩٧٠، مثّلت أفغانستان ٣٠٪ من إنتاج الحشيش العالمي، ولبنان ٢٥٪، وباكستان ٢٠٪. وبعد عشر سنوات، أظهرت الأرقام أن لبنان أعطى ٣٥٪، يتبعه باكستان (٢٥٪)، ثم المغرب (٢٠٪).

10أغسطس

أبطال رسوم الأطفال والشخصيات الدينية

إبتكر نايف المطوع شخصيات خارقة للأطفال تقابل سوبرمان وغيره، وفكرته هي الـ ٩٩ شخصية (بعدد أسماء الله الحسنى) التي تشكل فريقا بطوليا يحاول تقديم قيم إسلامية إيجابية للجميع. حاز هذا العمل السبّاق اهتماما عالميا واسعا، فامتدحه الرئيس اوباما وحصل على عدة جوائز.

في بداية تعريفه بالـ ٩٩ لجمهور TED، ذكر المطوع أن شخصيات خارقة اقتبسها مبتكروها من التراث الديني، وأعطى الأمثلة التالية:

– باتمان وسوبرمان اقتبسهما يهوديان من التوراة.

– مثل الأنبياء، فقدَ الأبطال الخارقون آبائهم، فوالدا سوبرمان ماتا قبل إكماله السنة، وباتمان فقَد والديه قبل السادسة، وسبايدرمان ربته عمته.

– كما تلقى الإنبياء رسالاتهم من السماء، فإن كل الشخصيات الخارقة أخذت رسائلها من الأعلى. تلقى سبايدرمان رسالته بلسعة عنكبوت هبط له في مكتبة، وباتمان نزل له خفاش وهو في غرفة نومه. أما سوبرمان فإنه لم يُرسَل من السماء فقط، بل أرسِل وهو رضيع داخل قذيفة، وكأنه موسى يُترك في النهر، وقال والده عند إرساله: “أرسَلت لكم إبني الوحيد”، في مقاربة لصورة عيسى في المسيحية.

والد سوبرمان  يرسله للارض في قذيفة

ملاحظات المطوع صحيحة، لكن نتيجته خاطئة. أبطال رسوم الأطفال يشبهون الشخصيات التوراتية، لكنهم لم يُقتبسوا (بالضرورة) من قصص الأنبياء. إن كل الأبطال (في القصص الديني وخارجه) تتشابه صفاتهم، ورحلتهم البطولية (من الميلاد حتى النهاية) تمر بمفاصل متشابهة، لا تخرج عن ذلك قصة نبي في كتاب مقدس أو مجرد غزال في أسطورة أفريقية قديمة. ما يبدو شخصاً أو حدثاً خاصاً هو قطعة من نسيج حاكه واستلذه كل البشر في كل الأزمنة، فهو بقِدَم ذاكرة البشر، ولو سألنا والتر بركيت لربما أقسم أن صورة وسيرة البطل ورثهما الإنسان من جينات أجداده!

في كتابه الشهير “البطل ذو الألف وجه“، درس جوزيف كامبل أساطير البطولة لدى الشعوب، ولاحظ تشابهها. مثل هوليوود (شيخ حكواتية زماننا)، تُسمعنا تلك القصص ما نحب، لأنها (هي أيضا) تريدنا أن نتلقاها وننقلها بشغف دائم. لم تأخذ بطولاتُ هوليوود ورسومُ الأطفال فكرتَها من الكتب المقدسة، بل إن الجميع رجع لنسق البطولة المحفوظ في اللاوعي الجمعي للبشر، كما اقترح كارل جونك الذي تأثر به كامبل.

وضعُ سوبرمان الرضيع في قذيفة هو نسق متكرر في أساطير البطولة يسميه كامبل “نفي وعودة الرضيع”. هذا موجز لأمثلة قدمها كامبل، مع تعليقات مني:

١) الملك سرجون الاكادي (٢٣٠٠-٢٢١٥ ق م): القائد الشهير هو ابن امٍ وَضِيعةٍ وأبٍ مجهول، وأخفت والدته حمله وولادته عن بطش الملك، وتركته في سلة بنهر الفرات، ثم التقطه عامل بقصر الملك، فتربى في القصر وكبر ليغلب الملك.
كُتبت أقدم نصوص التوراة نحو القرن التاسع قبل الميلاد، أي ان قصة سرجون سبقت التوارة بنحو ١٣٠٠ عام.

٢) شاندراجوبتا (٣٤٠-٢٩٨ ق م): مؤسس سلالة موريا الهندوسية هو ابن خطيئة لأم وضيعة وأب نبيل، وقد تُرك في جرة عند حظيرة بقر، ليكتشفه راع ويربيه.
آنذاك، لم تعرف الهندُ اليهوديةَ لتتأثر بها.

٣) البابا جرجوري (٥٤٠-٦٠٤ م): إبن خطيئة من توأمين نبيلين. وضعته أمه في تابوت وألقته في النهر، ثم التقطه ورباه صيادون.

وفي هذه الامثلة (وغيرها) يعيش البطل بلا أب (ولا نسل)، لأن أباه ميت أو مجهول، فدور الأب في سيرة البطل لا يتجاوز الإختفاء بعد تقديم البطل للوجود.

ولحظة تلقي الرسالة (التي أشار لها المطوع) هي من أهم مشاهد سيرة البطولة. يأتي نداء البطولة من السماء، كما تأتي الهداية (بالنور والنجوم) والحياة (بالشمس والمطر) والغضب، فالرب هو “العالي” كما سماه أهل الهلال الخصيب، وهو من ارتبطت المرتفعات بمعابده وعبادته. ويزيد كامبل، عادة ما تُبلغ الرسالةَ قُوةٌ مجهولة ومخيفة، وينكرُ البطلُ الأمر ليعود لحياته القديمه، لكن تظهر علامات تؤيد البلاغ فيقبله. ويستعير كامبل اقتراح فرويد بأن كل لحظات التوتر تعيد خلق المشاعر المؤلمة للحظة الإنفصال عن الأم (كضيق النفس واحتقان الدم)، فكأن البطل يواجه “أزمة ولادة” للإنفصال عن جسد حياته وقبول سيرة جديدة.

أخذ كامبل من جيمس فريزر عالمية النموذج الأسطوري، ففريزر كان المرجعية المؤثرة لدراسة الأساطير والطقوس العالمية، ففرويد (مثلا) استند على فريزر في كتابه الشهير “الطوطم والتابو“، بل إن مادتي “طوطم” و “تابو” كتبهما فريزر للموسوعة البريطانية. وقد دفع فريزر لتخصصه أستاذُ اللغة العربية في كامبردج روبرتسن سميث، الذي وظف إتقانه للغات الساميّة والتوراة وأعمال فريزر لدراسة الأسطورة والطقوس في السياق السامِيّ، فقدم أعمالا أهمها “ديانة الساميين”، وليتنا نترجم كتابه عن الزواج والقربى عند عرب الجاهلية (“القربى والزواج في الجزيرة العربية المبكرة”)، فسعة اطلاعه وحضور رأيه يستحقان العرض والنقاش. إن غياب نسخة عربية سمح لـ”اقتباسات” كبيرة (بأسلوب الإستعارة المنتهية بالتمليك!)، كما فعل اسماعيل أدهم في “من مصادر التاريخ الإسلامي” مستغلا (كغيره) حداثة اتصالنا بآراء الغرب والفجوة التعليمية الكبيرة في العالم العربي آنذاك.

بحَث المطوع عن شخصيات الرسوم في الكتب المقدسة، وهذا خيار سهل له وجمهوره، ونتيجته تجعل الـ ٩٩ بديلا إسلاميا لشخصيات يهودية ومسيحية. كما أن حديث المطوع يأخذ لأبعد من رسالة الحب التي أرادها، ففينا من سيفهم أن شخصيات الرسوم تبشر أطفالنا لأديان أخرى، فنبدأ حربا مقدسة كرتونية جديدة. لكن المطوع أخطأ، فسيرة البطولة أقدم وأوسع من الكتب المقدسة، فكل شعب نسج بطله، وإذا بهم يرسمون بطلا واحداً بألف إسم.

30يوليو

تاروت ومصر القديمة

تقديم

يحتمل مايكل رايس اتصال مصر القديمة بجزيرة تاروت في شرق السعودية، فدراسته لآثار المنطقتين أعطته قرائن على صلات بينهما تعود للألف الثالث قبل الميلاد.

هدف المقال هو التعريف المبسط بكتاب رايس (والأفكار ذات العلاقة) كبحث متصل بتاروت، فقد يفيد الكتاب متتبعي تاريخ تاروت، وإن احتاجوا التدقيق في ملاحظات رايس التي يقدمها هو نفسه بتحفظ شديد.

إقتبستُ وترجمت بتصرف المواد ذات الصلة بتاروت في كتاب مايكل رايس “صُنع مِصر. أصول مصر القديمة 5000 – 2000 ق م”، وأضفت توضيحات بين أقواس مربعة وهوامش إيضاحية من مصادر أخرى.

إقتباسات

يرى رايس في عاجِيّات هيراكونبوليس أوضح الأدلة على انتقال تقنيات فنية عِيلامية لمصر، فأحد النُحوت يصور ريش عدة طيور بشكل مطابق لصورة إمدُكُد من تاروت. الريش في النقشين مطابق لدرجة يستحيل فيها الإعتقاد أن التقليد أو الصدفة تركا ذلك الأثر على عاجيّات هيراكونبوليس. الأقرب أن النقش المصري صنعه حِرْفي شرقي [من غرب آسيا]، أو مصري تدرب عند حِرْفِيّين مُلمّين بالتقنيات العيلامية، أو (على الأقل) مصري إطّلع على تلك التقنيات. إن أوجه التماثل مدهشة بين عاجيات هيراكونبوليس ومنحوتات تاروت. [رايس:82]

إن كل المواقع المصرية الكبرى في فترة ماقبل الأسرات تركت مصنوعات من اللازورد. إحدى أهم القطع (وهي من هيراكونبوليس) تُمثل امرأة عارية تضم يديها أمامها في وضع سائد في مابين النهرين أكثر من مصر. يُقترح افتراض أن القطعة صُنعت في الخليج العربي. قد لا نجد شبيها للتمثال عند فنان مصري، إلا أن التشابه عظيم بينه ومجسم من تاروت يُنسب للألف الثالث قبل الميلاد. يجسد تمثال تاروت عجوزا يلتحف عباءة، وتفوق مهارة صنعه مجسم هيراكونبوليس، لكن الشك ضئيل في ترابطهما. يتشابه الإثنان في التعامل مع تجاويف سميكة وعميقة للأعيُن، ويشتركان في الجو الانفعالي. من الصعب إنكار أن التمثالين جاءا من تراث واحد أو من تراثين متقاربين جدا. [رايس:92]

تمثال هيراكونبوليس. (المصدر: المتحف الاشمولي باكسفورد، بريطانيا.)
تمثال تاروت. (المصدر: المتحف الوطني السعودي)

رغم أن احتمال غزو من آسيا الغربية لمصر في ماقبل الأسرات مستبعد عادة، إلا أن علينا ملاحظة أن رأس صولجان حكام مصر في نقادة الأول  كان اسطوانيا، ثم تغير فجأة لشكل الأجاص لدى حكام هيراكونبوليس في ماقبل الأسرات المتأخر، واستمر شكله كذلك. ووُجد رأس صولجان بشكل أجاص في تاروت، ونُسب لبداية الألف الثالث قبل الميلاد. [رايس:102]

رأس صولجان اسطواني من نقادة الأول. (المصدر: مايكل رايس.)
رأس صولجان بشكل أجاص من ماقبل الأسرات المتأخرة. (المصدر: مايكل رايس.)
رأس صولجان بشكل أجاص من تاروت. (المصدر: المتحف الوطني بالرياض، السعودية.)

أقدم اشارة كتابية لديلمون تعود لـ 3000 ق م، في الواح مدينة الوركاء [في مابين النهرين]، وهذه الألواح هي أقدم كتابات في العالم. تسرد الألواح اسماء دول (منها ديلمون) مرتبة حسب بعدها عن الوركاء. والأقرب أن ديلمون في ذلك الوقت كان شرق الجزيرة العربية [وليس جزيرة البحرين] الذي عادة ما اعتُبر جزءا من ديلمون في فترة لاحقة، إذ لا توجد آثار صريحة لاستيطان في البحرين في زمن تلك الألواح (من الألف الرابع أو بداية الألف الثالث)، بينما وُجدت مواد من بداية الألف الثالث وبكميات كبيرة في شرق الجزيرة العربية.

يبدو أن هناك استيطان مبكر هام في بقيق وتاروت في شرق الجزيرة العربية، واستيطان الجزر هو من أبرز خصائص بداية السكن في الخليج العربي. لم تستكشف تاروت بكثافة حتى الآن، لكن التنقيبات الدنماركية (التي بدأت في خمسينات وستينات القرن الماضي) قدمت أدلة قوية على استيطان مبكر من الطبقات العليا لتاروت، مما يعني تاريخ استيطان قديم. [رايس:237]

خاتمة

ما كُتب عن تاروت (مع أهميته) هو تاريخ الهامش، فتاريخها قبل الميلاد هو (في معظمه) شهادة حجارة الحضارات الأخرى، وتاريخها حتى العباسيين هو شهادة سجلات الخراج والخوارج. وفي الحالين، هو موقف الآخر أو المركز من الهامش، أكان الأخر هو البحرين أو مابين النهرين في ما قبل الميلاد، أو كان المركز هو بغداد ودمشق والقاهرة في ما بعد الهجرة. وتظل شهادة تاروت نفسها غائبة، حتى نستنطقها كما فعلنا مع شركائها الحضاريين.

إن رجحت  احتمالات رايس عن أصول القطع الأثرية المصرية أو تقنيتها، فيجب التأكد من أن مصدرها تاروت وليس حضارة أخرى اتفقت معها في التقنيات. ولترجيح تلك الآراء تبعات كثيرة، فهو يعيد تقديرنا لقدرات تاروت القديمة في الصناعة والتجارة والمِلاحة. وبروز تاروت في هذه المجالات (إن رجحه الدليل)  يثير أسئلة أخرى عن التقنيات والفنون والقوانين (مثلا) التي جعلت ذلك الانجاز ممكنا. وفي كل الحالات، نحتاج جهدا مضاعفا من باحثين ماهرين لنتعدى محطة “ساحل الذهب الاسود”، ونؤسس تأريخا يتجاوز  “ديلمون” و”عشتار” و”يمرون بالدهنا..”

هوامش

مايكل رايس (Michael Rice): دبلوماسي بريطاني وباحث في آثار الخليج ومصر. له مؤلفات كثيرة في سياسة الشرق الأوسط والتاريخ القديم للخليج ومصر، تُرجم بعضها للعربية. تأثرت أعماله بمنهج كارل جونك في التحليل النفسي. أسس في 1969 شركة Michael Rice and Company للعلاقات العامة والمتاحف، وخططت الشركة متاحف في عدة دول محلية (كالبحرين والسعودية وقطر). منحته البحرين وسام الدولة من الدرجة الاولى عام 2003، وهو يرأس جمعية الصداقة البحرينية البريطانية منذ 1999.

مايكل رايس

تاروت (Tarut): جزيرة سعودية بالخليج (انظر الخارطة). هي من اوائل حواضر شرق الجزيرة العربية، اذ تعود للالف الثالث قبل الميلاد. كانت مركزا رئيسا في حضارات المنطقة القديمة، كالعراق (مابين النهرين) وإيران (عيلام) وشرق العربية (البحرين). برزت تاروت في الصناعة والمِلاحة، وتمتع ميناؤها بشبكة تجارية واسعة.

مصر القديمة (Ancient Egypt): بدأ الإستقرار البشري في مصر نحو 5000 سنة قبل الميلاد. آنذاك، كانت مُدن مابين النهرين (بين دجلة والفرات في العراق) قد أسست حضارة الإنسان الأولى، وكانت البشرية تخلو من التمدن إلا في حواضر مابين النهرين ومصر. وتعرفت مصر على حضارة مابين النهرين (بامتدادها في الخليج) وباقي حضارات غرب آسيا (كعيِلام في إيران وديلمون في الخليج العربي) وتبادلت التجارة والثقافة معها.

وتاريخ مصر القديمة هو من فترتين رئيستين: مصر ما قبل الفراعنة أو فترة ما قبل الأسرات الفرعونية، وفترة الأسرات (Dynastic) التي توحدت فيها مصر تحت حكم أسر من الملوك أو الفراعنة. وتنقسم كل فترة من هاتين لفترات أصغر.

ماقبل الأسرات (Predynastic): الفترة (5500 – 3100 ق م) التي سبقت قيام مصر الفرعونية. كانت مصر مجزئة لمصر العليا (جنوب مصر) ومصر الدنيا (شمالها)، قبل أن توحدها أسرات الفراعنة. وتنقسم فترة ماقبل الأسرات لثلاث فترات: نََقادة الأولى (4400 – 3500 ق م) والثانية (3500 – 3200 ق م) والثالثة (3200 – 3000 ق م).

في القرن التاسع عشر، ساد رأي بأن مصر الفرعونية أسسها محتلون من غرب آسيا، أي أن عِرق الحكام الفراعنة ليس مصريا. إن المعلومات الأثرية الحالية ترفض نظرية العِرق الحاكم، ولا يتبناها اغلب الباحثين المعاصرين، ومنهم رايس.

هيراكونبوليس (Hierakonpolis): مدينة من أوائل حواضر مصر القديمة وأهمها، إذ تعود لـ 4000 ق م. كانت عاصمة مصر العليا (جنوب مصر)، وموقعها بين الاقصر وأسوان في مصر المعاصرة (انظر الخارطة).

عيلام (Elam): حضارة نشأت في جنوب غرب إيران، وهي من أقدم الحضارات البشرية (2700 – 539 ق م)، وتعتبر بداية التاريخ الإيراني.


Map showing the area of the Elamite Empire (in red) and the neighboring areas. The approximate Bronze Age extension of the Persian Gulf is shown.
إمدُكُد (Imdugud): كائن خرافي بجسد نسر ورأس أسد، آمن السومريون (في مابين النهرين) أنه طاثر رياح الجنوب الإلهي، الذي يصنع العواصف بجناحيه وزئيره.

امدكد

21أغسطس

“الرسالة الذهبية” ليست للإمام الرضا

“الرسالة الذهبية” كتاب مختصر في الطب منسوب للإمام علي بن موسى الرضا (153-203هـ). تبرز أهمية هذا العمل (إذا صحت نسبته للرضا) في جانبين:

1) لمؤرخي الطب العربي: الرسالة هي أقدم كتاب في الطب كتبه عربي أو مسلم [البار:142].
2) للمسلمين الشيعة: العمل دليل على تفوق الإمام الرضا (الإمام الثامن عند الشيعة الإثناعشرية) على أهل زمانه، واكتسابه معارف إلهية (لم يتعلمها من البشر) أيّدها العلم الحديث.

لكني أؤمن أن الرسالة لا تصلح لأي من الغرضين، فهي عمل منحول.

تقول الرسالة أن المأمون طلب من الرضا كتابتها بعد مجلس حضره أفضل أطباء الدولة [نجف:5-8]، وأُعجب بها المأمون فأمر بكتابتها بالذهب، فسُمّيت بالذهبية [نجف:67]. إسم الرسالة وسببه يطابقان ما رُوي عن الرسالة الذهبية لفيتاغورس التي “سميت بهذا الاسم لأن جالينوس كان يكتبها بالذهب إعظاماً لها” [إبن أبي أصيبعة:36].

رغم تبني الخليفة لها وأهميتها العلمية واحترام المؤرخين الواضح للرضا إلا أنها ذُكرت لأول مرة بعد وفاة الرضا بنحو 200 عام. لا أجد مبرراُ لهذا الصمت التام سوى جهل الجميع بالرسالة. حتى أعيان الشيعة كانوا يجهلونها، إذ لا يذكرها ابن بابويه القمي (311-381هـ) في “عيون أخبار الرضا” ولا معاصره ابن النديم (325-385هـ) في فِهرسته.

قدّم لنا أبو جعفر الطوسي (385-460هـ) في “الفِهرست” أول إشارة لها بإسم “الرسالة المذهبة” [الطوسي:9: 146] عندما عدّد مصنفات راوي الرسالة (أبو عبدالله محمد بن الحسن بن جمهور العمي البصري). ومع دخول الألف الأول الهجري، انتشرت وتعددت نسخها بـ”اختلاف فاحش” [المجلسي:59: 309] (إستمر لليوم)، وبرز إحتفاءُ مفكري الشيعة بها، إذ ظهرت 16 ترجمة وشرحا بعدة لغات [الطهراني:10: 266]. تأخُر ظهور الرسالة واختلاف نصها دليلان على أن أنها كُتبت في زمن متأخر واستمر تحريرها لعدة عقود، فهي نص منحول تغيّر بلا قيود.

ما كان فقهاء الشيعة سيحتفون بالرسالة لو حاكموها كباقي روايات محمد بن الحسن بن جمهور، فهو “ضعيف في الحديث، فاسد المذهب، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها” [النجاشي:20: 337] و”لا يُكتب حديثه، ولا يُعتمد على ما يرويه” [الحِلِّي:251]، ويُعتبر ممن أضرت رواياتهم [الحسني:196] وعقائدهم [جعفريان] بالموروث الشيعي. رُوي أنه كان يحلل الحرام [جعفريان]، وقد فعل منتحِل الرسالة ذلك عندما نسب للرضا شرابا “حلالا” يُحضَّر بطبخ الزبيب ثم تقطيره ثم تخميره مختوما لثلاثة أشهر [نجف:21-25]، وتنصح الرسالة (على لسان الرضا) أن يُخفف الشراب بالماء عند شربه (“الشربة منه قََدر أوقية بأوقيتين ماء” [نجف:25]).

الرسالة مليئة بالأخطاء العلمية. مثلا، تقول الرسالة:

“فإن الماء البارد، بعد أكل السمك الطري يورث الفالج. وأكل الاترج بالليل يقلُب العين ويورث الحول، وإتيان المرأة الحائض يولد الجذام في الولد، والجماع من غير إهراق الماء على إثره يورث الحصاة. والجماع بعد الجماع من غير أن يكون بينهما غسل يورث للولد الجنون ان غفل عن الغسل.” [نجف:26]

الجمع بين الماء البارد والسمك الطري مستمر عند سكان السواحل، ولم تسجل المستشفيات حالة فالج واحدة سببها ذلك. أما الحَول فليس من أسبابه أكل الإترج في الليل. ولا تحمل المرأة أثناء الحيض، ناهيك عن إصابة مولود بمرض جلدي (كالجذام) بسبب وقت جماع والديه. أما حصاة المثانة فلا يسببها إمساك (عدم إهراق) المني عند الجماع. وعيوب المواليد الخَلقية لا يسببها امتناع الوالدين عن الغُسل بين كل جِماعين.

تفترض الرسالة أن الانسان أضعف من أي آلة خلقها البشر، فهو يتلف لأتفه الأسباب (كأكل الإترج بالليل والخلط بين السمك والماء). وهي تسيء للدين بإرجاع الأمراض الخبيثة لمخالفة الشرع (الجذام سببه مجامعة الحائض والجنون سببه ترك غسل الجنابة و الخ)، وإن قدّم أدبُ “مِن البسطاء إلى البسطاء” يقيناً ضروريا للمؤمن البسيط، فإن نتائجه مدمرة إذا تبنته النخبة.

رغم طعن رجال الحديث لراوي الرسالة وأخطائها الطبية الكثيرة، إلا أن تكريم فقهاء الشيعة لها وصل لدرجة استخدامها مصدرا للتشريع، فـ”العروة الوثقى” تفتي باستحباب الغُسل “لإرادة العَودِ إلى الجِماع، لما نُقل عن الرسالة الذهبية: أن الجِماع بعد الجِماع بدون الفصل بالغسل يوجب جنون الولد” [اليزدي:1: 370]، ولا يعترض على الفتوى أيٌ من الفقهاء الكثيرين الذين علقوا على الكتاب. كم فتوى أخرى اعتمدت على مَن “لا يُكتبُ حديثه، ولا يُعتمد على ما يرويه”؟ لماذا يرى الفقيه أن منع أولادنا من الجنون مستحبٌ وليس واجب؟

لا تخدم أفكار الرسالة موقف المسلمين الشيعة، فالمعرفة التي تقدمها ليست إلهية بالتأكيد. وأرى أنها لا تخدم موقف مؤرخي الطب العربي (كمحمد علي البار) أيضا، فالنص منحول ولا يحمل قيمة تاريخية.

::. علي آل عمران

المراجع:

1) ابن أبي أصيبعة (أحمد بن القاسم)، “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”.
2) البار (محمد علي)، “الإمام علي الرضا ورسالته في الطب النبوي”.
3) جعفريان (رسول)، “أكذوبة تحريف القرآن، بين الشيعة والسنة”.
4) الحسني (هاشم معروف)، “دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري”.
5) الحِلِّي (جمال الدين الحسن بن يوسف)، “خلاصة الرجال”.
6) زيني (صاحب)، “طب الرضا”، تقديم مرتضى العسكري.
7) الطهراني (آقا بزرگ)، “الذريعة إلى تصانيف الشيعة”.
8) الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن)، “الفهرست”.
9) القمي (محمد بن بابويه)، “عيون أخبار الرضا”.
10) المجلسي (محمد باقر)، “بحار الأنوار”.
11) النجاشي (أحمد بن علي)، “رجال النجاشي”.
12) نجف (محمد مهدي)، “رسالة الإمام الرضا الذهبية في الطب والوقاية”.
13) اليزدي (محمد كاظم)، “العروة الوثقى”.

© Copyright 2013, All Rights Reserved