علم وتقنية

6نوفمبر

الجوال المصرفي وباقي القنوات

قبل شهرين، وفي حلقة حوار مؤسسة Retail Banking International بالرياض، نُوقِشت عوائق سيادة الجوال على باقي القنوات المصرفية، واحتمال كون الثقافة (المحلية مجددا!) من المعيقات. سأسجل هنا رأيي في الموضوع.

لعجز الجوال (كتطبيق مستجيب أو أصيل أو هجين) عن سيادة باقي القنوات (الآن) سببٌ تُهمله نقاشاتنا، وهو وجود منافذ بديلة للعميل (كالهاتف والصراف الآلي) يُحَفَّز مديرُوها بالتساوي على جذب العملاء، أي أن قنوات المصرف تُدفع للتنافس بينها. في هذا الوضع، تُحسَّن خدمات الجوال فيهاجر العملاء من قنوات أخرى له، ثم تُحسَّن القنوات المهجورة فيحدث نزوح معاكس، لأن توزيع العملاء على القنوات هو لعبة محصّلتها صفر.

التطوير المتساوي للقنوات هو (أيضا) إنهاك متساوي للقنوات، بل وللمؤسسة. تكرار خدمة في عدة قنوات هو تكرار لأعباء الخدمة داخل إدارة القناة وكل الإدارات المساندة (كالتقنية والعمليات وشكاوى العملاء وأمن المعلومات والمخاطر والتدقيق). أي أن التضخيم المتساوي للقنوات يحتاج تضخيما معادلا في أرجاء المؤسسة، وهذا ضُر إن حدث أو لم يحدث. فإن حدث فهو تحقيق لتضخيم موازي لتكاليف ثابتة، وإن لم يحدث فستُحرم القنوات من الرعاية الكافية وتصير همّا داخليا ثابتا! وعادة ما تكون النتيجة الحرمان، لأسباب منها:

١) إهمال زيادة سعة الخدمات المساندة عند التخطيط لزيادة خدمات القنوات.

٢) تناقض سياسة تضخيم القنوات مع سياسة ضبط أعباء المؤسسة، وتكون الغلبة للأخير.

والحاليَن من أسباب النمو غير المتناسق لجسد المؤسسة، إذ تصبح المؤسسة جسدا ضخما على قدمين هزيلتَين.

ومن الخطأ حتى إبقاء كل الخدمات الموجودة في القنوات الاخرى. إن موارد المؤسسات المالية (كرأس المال والمواهب ..) شحيحة ويجب ترشيد توظيفها لما يراعي الضغوط المتكاثرة، وللتبسيط منافع هيكلية كبيرة وكثيرة. كما أن كثرة القنوات وكثرة خدمات كل قناة هو مما يُبعد فرصة تقديم تجربة عميل جيدة. إن تجربة العميل هي حكاية تربط كل نقاط لقاءه بالمؤسسة، وكلما كثرت وتعقدت نقاط اللقاء صعب حبْك حكاية ممتعة للعميل.

بعض أنصار التطوير المتساوي يآملون إعطاء العميل حرية الخيار، لكنهم لا يراعون هذه الفضيلة عند تشجيعهم العميل على ترك قناة الفرع لقنوات الخدمة الذاتية! ومحاولة استيعاب كل أحد (كزبون) أو تجنب خسارة كل أحد هي سياسة خاطئة طبعا، فنموذج عمل المؤسسة هو موقف، وكل موقف هو موضوع قبول ورفض من الطرفين. ثم إن أغلب العملاء الذين يُخَاف رفضهم الجوال هم مقيمون فيه، ولا يبدو أنهم من يعيق تقدم المؤسسة للمستقبل!

أغلب العملاء اعتادوا استعمال تطبيقات لمؤسسات لا يعرفوا عنها غير تطبيقاتها، فلماذا يرفض بعظهم تطبيق المصرف؟ إضافة للسبب الذي ذكرته (والأسباب المعتادة كسهولة الإستخدام وكمال الخدمات الخ) يبرز التثقيف كسبب رئيس. مجتمعنا يعاني من أنيميا حادة للثقافة المصرفية، ومنها شُح جهود تعليم التطبيقات المصرفية. يغلب على المادة المصرفية خطابان: خطاب المصارف المركز على الترويج وخطاب العملاء-الاعلام المركز على النقد والسؤال. وليس من هذين الخطابين ما يرضي حاجة فهم منتجات وخدمات المصارف.

الجوال هو القناة الخاصة جداً والإجتماعية جدا. وهو الأقدر على تغطية أوسع جغرافيا بأقل تكلفة (عكس الفرع والصراف الآلي الملتصقَين بالمكان)، ويخلو من الإعاقات التقنية الخَلقية الملازمة للهاتف والصراف الآلي والتي تنتظر فتوحات تقنية عديدة.

1أكتوبر

حاشية على فيلم The Margin Call

شاهدت (متأخرا كالعادة) فيلم The Margin Call. الفيلم هو إبراز بسيط وحلو لومضات من أزمة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ المالية. كان للأزمة تبعات كارثية عالميا، كإغلاق مؤسسات مالية وخضوع غيرها لإعانات ووصاية الدولة، إضافة لإخلال مصارف بوظيفتها الضرورية كمقرض لاستهلاك العائلات واستثمار الشركات.

يحكي الفيلم أن موظف إدارة مخاطر في شركة استثمار اكتشف أن مخزون الشركة من البضاعة المالية سيكلف الشركة خسارة تتجاوز أضعاف رأس مالها. اُستدعي مدراء عديدون لدراسة الوضع وحلّه، وتقرر بيع ٨ ترليون دولار من المنتجات السيئة في صباح اليوم الثاني. أُنقذت الشركة وضُحِّي بشركائها والسوق، ثم كُوفئ الموظفون على هذا “الإنجاز”.

سألتقط فكرتين من الفيلم، وأعلّق عليهما:

-١-

إهتم الفيلم بإظهار ضخامة مكافآت موظفي قطاع الإستثمار (هناك وآنذاك!)، ربما لوضوح وإثارة الموضوع عند الجمهور، ولإبراز مآلات ذلك النمط من التحفيز.

معروف أن تلك المكافآت من أسباب انهيار السوق، لأنها حفّزت على اتخاذ مستويات مغالية من المخاطرة. ولهذا سُنّت تشريعات لمكافآت القطاع المالي لتجنب أزمات مشابهة.

تمركزت حوافزٌ عالية في القطاع المالي وتمَركز معها أفضل خريجي الجامعات، لأن القطاع قدّم عوائد استثنائية على الذكاء. ومع استقرار ذلك الوضع لعدة عقود، تمَركز الابتكار وتسارع في القطاع المالي، وتأخر في قطاعات (كالصناعة) عجزت عن جذب وتحفيز تلك العقول.

تكتُّل الذكاء هذا أعطى منتجات في الهندسة المالية عالية التقدم والتعقيد والمخاطرة، في فترة من غياب تشريعات ملائمة. وكانت النتيجة كارثية لهذا التكتل التاريخي النادر لثلاثي الذكاء والحافز وسهولة التشريع.

قد لا تعود تلك الحوافز لمستوياتها السابقة، لتغييرات هيكلية عديدة في البيئة المالية. من هذه التغييرات تشريع عزل وتقييد الأنشطة الاستثمارية، وبالتالي خفض الحاجة للمهارات العالية الملاصقة لهذه المنتجات المعقدة.

يبدو أن محطة تكتل الذكاء والحافز وسهولة التشريع اليوم هي قطاع هندسة البرمجيات. والتجربة القادمة الأكثر تشويقا هي محاولة هذا القطاع حمل وصفته للابتكار لقطاعات هندسية متأخرة، كهندسة السيارات والهندسة الحيوية. ومحاولة ألفابيت (الشركة الأم لجوجل) مع الهندسة الحيوية هي الأكثر اثارة، فإضافة لتأخر كشوفات العلوم الحيوية، تواجه تطبيقاتُها شدة تشريعية هي تحدي إضافي لآلفابيت.

-٢-
إهتم مشهدٌ في الفيلم بطرافة كون موظف دائرة المخاطرة من خريجي علم الصواريخ. وذكر الفيلم أن رئيس ذلك الموظف كان مهندسا معماريا.

للقطاع المالي علاقة مدهشة بالفيزياء. مثلا، الرسوم البيانية للأسهم ومؤشرات التحليل الفني انتفعت بمحاولات تطبيق أساسيات حركة المقذوفات على أسعار الأسهم، وما يرافق ذلك من مبادىء كالإتجاه والسرعة والتسارع..

بل إن فيزيائيين وجدوا مبكرا ما يؤيد تطبيق قوانين الطبيعة على سوق المال، كـ تحليل تذبذب اسعار الاسهم و تسعير المنتجات المالية الأكثر تعقيدا (المشتقات) وتطبيقات مالية عديدة لرياضيات الشبكات المعقدة وفيزياء الجزيئات وسواها..

4أكتوبر

لن تنقذ اللحوم الصناعية حيوانات الطعام

نعرف أننا نعامل حيوانات الطعام (المواشي، الدواجن، ..) ليس ككائنات حية، بل كألات تنتج أنسجة (عضلات، جلود، ..) لا نستطيع صنعها الآن. ومع آمال الانسان لصنع أنسجة كهذه، تصعد آمال لإنقاذ الحيوانات، بترك استخدامها كمادة للطعام والصناعة. لكني أظن أن بدائل حيوان الطعام لن تنقذه، بل ستؤدي لانقراضه. أي أن هذه الكائنات الحية هي بين مصيرين: بقائها كمادة للطعام والصناعة، أو الإنقراض.

طبعا، كانت هذه الحيوانات بريةً قبل أن يستأنسها البشر. الأجيالُ الأولى البريةُ اختفت تقريبا، وما ينفعُ الناسَ مَكَثَ في الارض، لأن الانسان أذِنَ لتناسلها ورعاه. وعبر أجيال من البشر، تم تفضيل سلالاتِ حيواناتٍ حسب نفعها لبقاء الانسان، وفنَى غيرُها. أي أن تطور حيوانات الطعام حكمته سلطتان:
١) الطبيعة: حيث فَرزت الظروف الطبيعة هذه الحيوانات، ونجى الأقدرُ على البقاء.
٢) الانسان: حيث فَرز الانسان هذه الحيوانات، ونجى الأفضلُ لبقاء الإنسان.

قدراتُ الحيوانِ الأنفعِ لبقاء البشر تُناقضُ قدراتَ الحيوانِ الأنفعِ لبقاءه هو، والسلالات التي اصطافها الإنسان لنفسه هي كائناتٌ إتّكاليةٌ عليه، وعاجزةٌ عن العيش في بيئاتها الطبيعية الأولى. هي مُسوخٌ هشّة، فارتقاء الإنسان احتاج انحدارَ كائناتٍ أخرى (وربما بشرٍ آخرين!)

هذا النقاش يساوي حيوانات الطعام بكل ما يتداوله الإنسان (الأفكار، السلوك، المنتجات، ..)، في ما يشبه داروينية يسيّرها نفعُ الناس، فإذا وصَلَنَا نبات أو سلوك أو كتاب فلأن أجيالا من البشر رعت تكاثره فلم ينقرض. واذا نمت فكرةٌ في مجتمع، فلأن الأغلبية هناك يرعون تكاثرها. إن سلطة الأغلبية تلك واسعة وعميقة، وأضخم من جهودنا للنجاة منها، وما نستهلكه اليوم هو فرَضٌ من الأغلبية. لنأخذ الإنترنت كنموذج. أعطت الإنترنت (كإرشيف جماعي للمعرفة البشرية) ملجأً سهلاً للأفكار، لكن البحث في هذا المخزون منحازٌ لما ترشّحه الأغلبية (مثل أسلوب جوجل المسمى Page Rank). لهذه الأسباب وغيرها، صارت بُنيةُ أدوات البحث (كفهارس للمعرفة البشرية) مقلِقةً حضارياً.

أعودُ لموضوعنا! عَتْقُ الانسان لحيوانات الطعام لن يكون سببُ انقراضها الوحيد. صُنعُ أنسجة بديلة للحيوان سيكون نتاجَ علومٍ مثل هندسة الأنسجة أو التصنيع الحيوي، وأولُ أهداف هذه العلوم قد يكون تعويضَ أعضاءٍ بشريةٍ مختلّةٍ وظيفيّا، فيطولُ عمرُ الانسان، ويزيدُ سكانُ العالم وإخلاءُ بيئة الكائنات الأخرى لسكن البشر. إذا نبذ الإنسان الحيوانات كمادة للطعام والصناعة، فلن يرحب بها كمنافس على موارد الأرض.

أخيرا، دعونا نراجع دوافع رفض تربية حيوانات الطعام:

١) أخلاقية (أو عقائدية): ضد مبدأ أو طريقة ذبح الحيوان، أو ظروف رعايته، أو حتى أكله.
٢) صحية: ضد مبدأ تناول اللحوم، أو مشككة في سلامة طرق تغذية الحيوانات أو معالجة لحومها ونقلها وتخزينها على صحة الإنسان.
٣) بيئية: قلقة من التكلفة البيئية لتربية الحيوانات للطعام، فنحن نستهلك سنويا من الحيوانات البرية نحو ١٠ أضعاف عدد البشر.

إن فُرص تحقيق تلك الشروط تنخفض مع ارتفاع عدد البشر أو مستواهم الاقتصادي، ويبدو أن ارتفاع جودة حياتنا (صحيا واقتصاديا) يخفض قسراً أخلاقية وصحيّة وبيئيّة طعامنا، إلا إذا أبدلنا (طوعاً أو كُرهاً) الحيوانَ بأنسجة مُصنّعة. قد تحقق البدائلُ الآمانيَ الثلاث، إلا نجاة حيوان الطعام.

كنظامنا الغذائي الحالي، سيكون لبدائل اللحوم آثار ثقافية واجتماعية عميقة. مثلا، ماذا سيكون تعريفنا للذة الطعام؟ وماهي المظاهر الطبقية للذة، إذا كانت النُدرةُ عنصرا في لذة طبقة اجتماعية؟

22سبتمبر

مطالعة فيلم: جوبز

فيلم “جوبز” (عن مؤسس أبل) سيء، لأسباب سأوضحها.

الفيلم لا يعرض قصة ستيف جوبز، بل قصته مع أبل، فالفيلم يبدأ قبل تأسيس أبل بقليل وينتهي بعد عودة جوبز لأبل بقليل، ويتجنب حياة جوبز خارج أبل (كالجانب الإجتماعي وأعماله الاخرى). قصة الفيلم هي ما نعرف عن جوبز من الإعلام، بلا إضافة. أشعر أن القصة قيَّدَها هاجس السرية عند عائلة جوبز، فصار الفيلم أداءاً درامياً لقليل منتشر عند الجمهور، أو أن الفيلم أراد قبولا تجاريا بقَصْرِ القصة للجانب الممتع المفهوم عند المشاهدين.

معروفٌ أن جوبز كان متوحشا مع الناس في داخل أبل وخارجها (حتى مع عشاق أبل)، ولم تكن من عادته إظهار الإنسانية. لم يجد الفيلمُ الإنسانَ في سلوك جوبز العلني، فبحث عن الانسان فيما يفعل جوبز في السِرّ. جوبز المتوحش، الذي نبذ ابنته وترك شريكه ستيف وزنياك، بكى وحيدا بعد هذين الموقفين! هذا كل ما وجده الفيلم من إنسانية جوبز، بعد ساعتين من التنقيب.

شخصية جوبز في الفيلم تظهِر جفافه المذكور بوضوح مستمر، لكنها لا تُضخِّم تلك الصفة كما فعلت لسمات أخرى في جوبز ومن حوله. مثلا، حركة جوبز ضَخّمها أداء الممثل لدرجة كرتونية. وشخصية وزنياك شُوّهت بالكامل، وكأنه ساذج طيب محظوظ بموهبة تقنية. حتى جوناثان إيڤ ظهر أمام جوبز بشخصية كرتونية، وكأنه يتلو نصّاً تدرّب عليه لتسجيل رسمي (scripted and coached speech). يبدو أن فريق الفيلم لم يجد مادة مصوَّرة لإيڤ سوى تسجيلات أبل وفيلم Objectified، ومن الطريف تقديم شخصيته العفوية هكذا. طبعاً إيڤ يظهر كدُمية طيبة أخرى أمام جوبز، وكأن إيڤ تلميذٌ واعِدٌ وليس رئيس التصميم الصناعي في أغلى شركة تقنية في التاريخ والحاصل على ثاني أعلى وسام بريطاني.

وزنياك وإيڤ ليسا الطيبان الوحيدان عند جوبز، فكل من حوله كذلك، وكأن الله سخّر لجوبز ما يحتاج من الدُمى الطيبة المحدودة المهارات. ولا يَظهَر في الفيلم أن لجوبز قرينٌ في أعماله أو حياته الشخصية. فهو وحش يستخدم طيبين، ومُلهَمٌ يقود بُسطاء لجنة لا يرونها، ولا تجب عليهم رؤيتُها، فهم مُكَلّفون بما يستطيعون فقط، أي الطاعة! وفي عدة مناسبات، ينبِذ جوبز شخصاً ممن حوله بسهولةِ رميِ علكةٍ انتهت نكهتها. إذا سألنا “هل من الأفضل أن يُهاب القائد أو يُحب؟”، فإن الفيلم يجيب أن جوبز اختار هيبة القائد، وربما كان جوبز كذلك. (طبعا ذلك السؤال الدارج فيه مغالطة التقسيم الخاطىء.)

أخيراً، وفي مبالغة درامية أخرى لإمتاع المشاهد، يَظهرُ البطل عارفاً لهدفه وكيف يصله من أول خطوة، ويتّجه لهدفه برشاقة وثقة. هذه الصورة تكررها هوليود في أفلام الحركة، فالبطل يهرب من مُلاحقيه برشاقةِ وثقةِ العارِف، ولا يُظهِرُ جُهداً لاستكشاف المكان، بينما سياق الفيلم يقول أن البطل غريبٌ على أزقّة تلك الحارة المزدحمة والضيقة. يبدو أننا (كبشر) نستلذ صورة البطل المُلهَم المُسدَّد.

نعلمُ أن الواقع مختلف، فذلك البطل الهارب سيستكشف الحارةَ الغريبةَ كما يفعل فأرٌ في متاهةٍ بمختبر، وسيدخل خطأً طُرُقاً مسدودة ويغيّر مساره مراراً، وهذا ما نفعله نحن البشر (ومِنّا القيادون) سعياً لأهدافنا في متاهة الحياة. بل حالنا أشد صعوبة من متاهة بمختبر، لأن متاهاتنا تتغير دروبها دوما، وما اعتبَره قياديٌ درباً خاطئاً (أو العكس) قد يصبح سليما لتغير الإقتصاد أو التقنية أو المنافسة الخ. جوبز لم يكن يرى (أبداً) أبل اليوم، بل كان (مثلنا) يتصرف كما يسميه البرمجيون بالإستكشاف (Heuristics)، أي أن نقيّم الخيارات التي يفرضها الواقع، ثم نتحرك حسب الخيار الأفضل قيمة، ونكرر اللعب. النتيجة ستكون حصيلة قرارات منفصلة، وليست حصيلة خطة قديمة (للمنتجات والأسعار الخ) ينفذها القيادي لسنوات.

ما يميز جوبز وغيرَه من المؤسسين الناجحين لشركات تقنية عملاقة (مثل بيل جيتس ولاري إلْسون) هو أن هؤلاء تعلموا من أخطائهم بسرعة السوق. فيلم جوبز يهمل تجربة تعلم جوبز، ويتجنب نقده، ربما بسبب شروط عائلة جوبز، أو لأن الجمهور يتوقع عرضاً إيجابياً لجوبز الآن. إن عمق تجربة الخطأ والتعلم واضحة عند جوبز، فأبل التي تركها بعد عزله كانت ستيف جوبز، وأبل التي تركها بعد موته هي بيكسار.

أن محتوى فيلم جوبز أقل من أعمال قديمة مشابهة، كـ Pirates of the Silicon Valley (عن قصة شركتي الحواسب المنزلية الامريكيتين ميكروسوفت وأبل) و Micro Men (عن قصة شركة الحاسب المنزلي البريطانية سنكلير)، فهذان العملان مثلا، ورغم قدمهما، أفضل من فيلم جوبز.

19يونيو

حوار إعجازي

Rakan: What we see today in our solar system is nothing more than the result of a collapsing cloud of dust and gas .. order from chaos!

ع: لِمَ يُذكرني هذا بقوله تعالى: “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ”؟

علي: قَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ. هل يعني أن الأرض كانت موجودة في تلك اللحظة من الكون؟

ع: هذا من باب قوله للشيء كن فيكون. أي شيء تريد أن توجده أنت كشخص يكون لديك كفكرة في نفسك ثم توجده في العالم الحقيقي.

علي: أي أن الدخان حقيقة والأرض فكرة. على أي أساس اخترتَ كلمة معينة في النص واعتبرتها فكرة أو مجازا؟ هل لأنك بعد ١٤٠٠ اقتنعتَ بفكرة معينة واحتجتَ أن تؤل النص لتحميه منها؟ لماذا لا يكون الدخان مجازا والأرض حقيقة؟ وما رأيك أن نعتبر كل شئ مجاز ونريح أنفسنا وكل الأجيال القادمة من لعنة العلم؟

ع: لا ليست مجازًا، إذا كنت تتكلم عن خالق كل شيء :) فهمها من تكملة الآيات بعدها “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ…”، يعني أن إيجاد السموات والأرض كان بعد ما حصل في الآية السابقة.

علي: اظن ان هناك لغتين (أو لسانين) للقرآن اليوم: لغة الفقهاء ولغة أصحاب الإعجاز (أو الخيال) العلمي. يحاول الفقيه فهم كلام الله بفهم كلام البدوي في الصحراء، ويخضع النص لسيبويه (النحو) والخليل (القاموس)، ولا مكان هنا لـ “أدنى الأرض” بمعنى “أهبطها” أو “دحى” بمعنى “كوّر”. هذا كله عبث.
‎أما لغة الإعجازيين فتهمل ذلك الإنضباط لأنه يعيق حركتهم، وتفضل لغة مائعة يذوب فيها الزمان والمكان وقواعد اللغة والمعجم لصالح الإستعراض الذي يريده لاعب السيرك. وفي حين يُخضِع الفقيه لغة الخالق لشِعر البدوي، يفضّل الإعجازي إخراج صاحب النص (والنص) من المكان والزمان ويجرده من كل قوانين وقيود الكون، ليعطيه صلاحيات مطلقة تنتقل لمفسر النص نفسه. الفقيه يقيد صلاحياته بتقييد لغة النص بلغة البدوي، والإعجازي يحرر نفسه (لدرجة الإباحية الفكرية) بتحرير صاحب النص.
‎إسمح لي أن أطبق لغة الفقهاء الأكثر مسئولية على ذلك المقطع القرآني، وسأرتب أحداث الخلق من الآية التاسعة:
‎٩) خلَق الأرض في يومين.
‎١٠) جعَل فيها رواسي وقدّر أقواتها في أربعة أيام.
‎١١) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها.
‎ترتيب الأحداث يقول أن الله خلق الارض والجبال أولا، (ثم) استوى إلى السماء وكانت دخان. وهذا يناسب فهم أن الأرض كانت موجودة (وليست مشروعا مستقبليا) أثناء مخاطبتها في الآية ١١.

ع: لست ممن يتبَّع بعض “خيالات” الإعجاز العلمي، لكن عندما يكون الأمر واضحًا ومنطبقًا مع ما اكتُشف عندها أصدق به. وارتباط الدخان بمرحلة الخلق ينطبق مع ارتباط الغبار الكوني بنشوء الأجرام السماوية.
‎بالنسبة للآيات التي تسبق الآية المذكورة فاعذرني فربما خانتني الذاكرة في ردودي السابقة، لكن التفسير ما زال قائمًا حتى مع وجود الترتيب المذكور. خلَق الله الأرض، ثم جعل فيها رواسي وقدَّر أقواتها، ثم استوى إلى السماء وهي دخان (أي أنها كانت واستمرت على كونها دخان). وربما أرجِع هنا إلى تفسير قديم هو تفسير الطبري (والذي يعد من أقدم التفاسير الموجودة). يقول في تفسيره لهذه الآية:

وقوله: “فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا” يقول جلّ ثناؤه: فقال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات، وتشقَّقِي عن الأنهار

‎فالتفسير يؤيد نشوء الشمس والقمر والنجوم عندما كانت السماء دخانا.

علي: دعني أسترسل أكثر يا سيدي ع،
‎وجود الأرض حين كانت السماء دخانا يتعارض مع معارفنا الحالية، فهو يعني أن الأرض هي أقدم أجرام الكون. وأنا لا أجد دافعا (سوى التعاطف) لفهم مختلف للنص، فالنص يرتب أحداث الخلق بوضوح.
‎تسلسل الأحداث (وتلاعب الإعجازيين به) ليس هو السؤال الوحيد، فتفسير السماء بالكون والدخان بالغبار الكوني هي حيل اخرى تستحق حديثا اطول.

ع: ترتيب أحداث الخلق فيه اختلاف بين المفسرين أنفسهم، حتى أن الرازي في تفسيره يؤكد وجود الخلاف:

قوله “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ” مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى: “وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا” [النازعات:30] مُشعِر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة.

‎فالمسألة فيها اختلاف قبل حدوث الاكتشاف العلمي أصلاً. وفي الآيات المذكور فيها الدخان ليس هناك إشارة إذا ما كان الدخان قد انتهى بعد أمر الله للسموات والأرض أن تأتيا طوعًا أو كرهًا. وقد يفهم من الآيات أن الله خلق جزءًا من السماء قبل خلق الأرض ثم عندما خلق الأرض قال لها وللسماء “اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً”.
‎أما عن كون الدخان هو الغبار الكوني فلعلك تنظر إلى صور مثل هذه وتحكم بنفسك:

‎هذه تسمى أعمدة الخلق (Pillars of Creation) على فكرة :)
‎من وجهة نظري الشخصية (وربما يتفق معي البعض فيها) أن تفسير الآيات التي تحتمل لغويًّا أن تُفسر بطريقة أخرى (ليس عن طريق التلاعب بالتأويل بل عن طريق البحث اللغوي المتضمن لما يحتمل وما لا يحتمل التأويل) ويُكتشف فيها اكتشاف علمي دقيق ومؤكد قد يغير (أو يحسم الخلاف) من فهمنا لبعض الآيات القرآنية المتعلقة بالمظاهر الحسية. إذ فهم الناس في عصر ما يتأثر بما توفر عندهم من أنواع المعارف.

علي: سمعت انك لا تمل من الجدال، لكني لم أتوقع أن حالتك أصعب مني!
‎ليس هناك ما لا يختلف فيه المفسرون، وقصة الخلق ترد في القرآن بصيغ مختلفة لا يخدمها تهافت التفسير. وعلى عكس البعض، لا أعتبر هذا مجالا للتعددية الخلاقة، بل هو مصدر لمتاعب مزمنة، لكن الإنحراف لمسألة التفسير لا يتحمله ضيق صدر مجلسنا.
‎إن توظيف الأديان للعلم (كشاهد شاف كل حاجة) هو موطن آخر للتساؤلات. فهل يحتاج الثابت شهادة المتغير؟ أم هو من باب ليطمئن قلبي؟ وما قيمة شهادة أي متغير؟
‎إن الصيغ التي تمارسها الأديان للتضامن مع العلم تسيء للطرفين، فالعلم المتعاطف مع الأديان ليس علما بل نكتار علم (١٠٪ علم)، لأن الأديان تختار متى يتحدث أو يصمت العلم، و تزخرف نسخا (منقصة ومنقحة) من العلم.
‎وتلك الصِيغ تضر الدين، لأنها تنقل النص المقدس من المتن إلى الهامش، وتنقل العلم من الهامش للمتن، إذ يصبح المقدَّس شاهدا على متن العلم. إن النصوص المقدسة اليوم تسير مع العلم حيثما سار، وتتلون معه، وميوعة التفسير هي سند عظيم لهذا التلون.

ع: ربما لتكويني الأشعري أثر على حبي للجدال :)
‎هناك ما هو معلوم من الدين بالضرورة كأركان الدين والأحكام الأساسية، وهناك ما يظهر الإختلاف فيه. منذ القدم كان علماء التفسير يجمعون بين حقائق الطبيعة وصيغ الآيات القرآنية، ربما لأن إيمانهم كان أقوى بأن منزل القرآن هو خالق الطبيعة، وهو ما يجعل التعارض مستحيلاً.
‎لست ممن يحاول أن يوفق بين الدين والعلم الطبيعي قسرًا، ولكن في بعض الأحيان تتضح معاني آيات تتناغم بشكل يستحيل أن أعتبره مصادفة.
‎شخصيًّا، أنا مع فصل الأبحاث العلمية عن تأثير معلومات الخلفيات الدينية، وهذا ما يتطلب أن نبحث في حقائق الخلق حياديًّا. لكني في نفس الوقت لا أقف ضد من يجد رابطًا بين مكتشف علمي ومقدس نصي.
‎ولا يضر الدين ظهور مكتَشف علمي قد يتعارض ظاهرًا مع نصه، فالنصوص المقدسة تخضع للغتها، وهناك مجال للنقاش داخل هذه اللغة، وطالما كان التأويل جائزًا لغويًّا، فالنتيجة ليست تمييعًا بقدر ما هي جمع بين واقعين، إلا عند من كان لديه شك أو اعتبر الدين منتجًا إنسانيًّا بحتًا، عندها ينتقل النقاش إلى مرحلة الجذور.

© Copyright 2013, All Rights Reserved