30يوليو

تاروت ومصر القديمة

تقديم

يحتمل مايكل رايس اتصال مصر القديمة بجزيرة تاروت في شرق السعودية، فدراسته لآثار المنطقتين أعطته قرائن على صلات بينهما تعود للألف الثالث قبل الميلاد.

هدف المقال هو التعريف المبسط بكتاب رايس (والأفكار ذات العلاقة) كبحث متصل بتاروت، فقد يفيد الكتاب متتبعي تاريخ تاروت، وإن احتاجوا التدقيق في ملاحظات رايس التي يقدمها هو نفسه بتحفظ شديد.

إقتبستُ وترجمت بتصرف المواد ذات الصلة بتاروت في كتاب مايكل رايس “صُنع مِصر. أصول مصر القديمة 5000 – 2000 ق م”، وأضفت توضيحات بين أقواس مربعة وهوامش إيضاحية من مصادر أخرى.

إقتباسات

يرى رايس في عاجِيّات هيراكونبوليس أوضح الأدلة على انتقال تقنيات فنية عِيلامية لمصر، فأحد النُحوت يصور ريش عدة طيور بشكل مطابق لصورة إمدُكُد من تاروت. الريش في النقشين مطابق لدرجة يستحيل فيها الإعتقاد أن التقليد أو الصدفة تركا ذلك الأثر على عاجيّات هيراكونبوليس. الأقرب أن النقش المصري صنعه حِرْفي شرقي [من غرب آسيا]، أو مصري تدرب عند حِرْفِيّين مُلمّين بالتقنيات العيلامية، أو (على الأقل) مصري إطّلع على تلك التقنيات. إن أوجه التماثل مدهشة بين عاجيات هيراكونبوليس ومنحوتات تاروت. [رايس:82]

إن كل المواقع المصرية الكبرى في فترة ماقبل الأسرات تركت مصنوعات من اللازورد. إحدى أهم القطع (وهي من هيراكونبوليس) تُمثل امرأة عارية تضم يديها أمامها في وضع سائد في مابين النهرين أكثر من مصر. يُقترح افتراض أن القطعة صُنعت في الخليج العربي. قد لا نجد شبيها للتمثال عند فنان مصري، إلا أن التشابه عظيم بينه ومجسم من تاروت يُنسب للألف الثالث قبل الميلاد. يجسد تمثال تاروت عجوزا يلتحف عباءة، وتفوق مهارة صنعه مجسم هيراكونبوليس، لكن الشك ضئيل في ترابطهما. يتشابه الإثنان في التعامل مع تجاويف سميكة وعميقة للأعيُن، ويشتركان في الجو الانفعالي. من الصعب إنكار أن التمثالين جاءا من تراث واحد أو من تراثين متقاربين جدا. [رايس:92]

تمثال هيراكونبوليس. (المصدر: المتحف الاشمولي باكسفورد، بريطانيا.)
تمثال تاروت. (المصدر: المتحف الوطني السعودي)

رغم أن احتمال غزو من آسيا الغربية لمصر في ماقبل الأسرات مستبعد عادة، إلا أن علينا ملاحظة أن رأس صولجان حكام مصر في نقادة الأول  كان اسطوانيا، ثم تغير فجأة لشكل الأجاص لدى حكام هيراكونبوليس في ماقبل الأسرات المتأخر، واستمر شكله كذلك. ووُجد رأس صولجان بشكل أجاص في تاروت، ونُسب لبداية الألف الثالث قبل الميلاد. [رايس:102]

رأس صولجان اسطواني من نقادة الأول. (المصدر: مايكل رايس.)
رأس صولجان بشكل أجاص من ماقبل الأسرات المتأخرة. (المصدر: مايكل رايس.)
رأس صولجان بشكل أجاص من تاروت. (المصدر: المتحف الوطني بالرياض، السعودية.)

أقدم اشارة كتابية لديلمون تعود لـ 3000 ق م، في الواح مدينة الوركاء [في مابين النهرين]، وهذه الألواح هي أقدم كتابات في العالم. تسرد الألواح اسماء دول (منها ديلمون) مرتبة حسب بعدها عن الوركاء. والأقرب أن ديلمون في ذلك الوقت كان شرق الجزيرة العربية [وليس جزيرة البحرين] الذي عادة ما اعتُبر جزءا من ديلمون في فترة لاحقة، إذ لا توجد آثار صريحة لاستيطان في البحرين في زمن تلك الألواح (من الألف الرابع أو بداية الألف الثالث)، بينما وُجدت مواد من بداية الألف الثالث وبكميات كبيرة في شرق الجزيرة العربية.

يبدو أن هناك استيطان مبكر هام في بقيق وتاروت في شرق الجزيرة العربية، واستيطان الجزر هو من أبرز خصائص بداية السكن في الخليج العربي. لم تستكشف تاروت بكثافة حتى الآن، لكن التنقيبات الدنماركية (التي بدأت في خمسينات وستينات القرن الماضي) قدمت أدلة قوية على استيطان مبكر من الطبقات العليا لتاروت، مما يعني تاريخ استيطان قديم. [رايس:237]

خاتمة

ما كُتب عن تاروت (مع أهميته) هو تاريخ الهامش، فتاريخها قبل الميلاد هو (في معظمه) شهادة حجارة الحضارات الأخرى، وتاريخها حتى العباسيين هو شهادة سجلات الخراج والخوارج. وفي الحالين، هو موقف الآخر أو المركز من الهامش، أكان الأخر هو البحرين أو مابين النهرين في ما قبل الميلاد، أو كان المركز هو بغداد ودمشق والقاهرة في ما بعد الهجرة. وتظل شهادة تاروت نفسها غائبة، حتى نستنطقها كما فعلنا مع شركائها الحضاريين.

إن رجحت  احتمالات رايس عن أصول القطع الأثرية المصرية أو تقنيتها، فيجب التأكد من أن مصدرها تاروت وليس حضارة أخرى اتفقت معها في التقنيات. ولترجيح تلك الآراء تبعات كثيرة، فهو يعيد تقديرنا لقدرات تاروت القديمة في الصناعة والتجارة والمِلاحة. وبروز تاروت في هذه المجالات (إن رجحه الدليل)  يثير أسئلة أخرى عن التقنيات والفنون والقوانين (مثلا) التي جعلت ذلك الانجاز ممكنا. وفي كل الحالات، نحتاج جهدا مضاعفا من باحثين ماهرين لنتعدى محطة “ساحل الذهب الاسود”، ونؤسس تأريخا يتجاوز  “ديلمون” و”عشتار” و”يمرون بالدهنا..”

هوامش

مايكل رايس (Michael Rice): دبلوماسي بريطاني وباحث في آثار الخليج ومصر. له مؤلفات كثيرة في سياسة الشرق الأوسط والتاريخ القديم للخليج ومصر، تُرجم بعضها للعربية. تأثرت أعماله بمنهج كارل جونك في التحليل النفسي. أسس في 1969 شركة Michael Rice and Company للعلاقات العامة والمتاحف، وخططت الشركة متاحف في عدة دول محلية (كالبحرين والسعودية وقطر). منحته البحرين وسام الدولة من الدرجة الاولى عام 2003، وهو يرأس جمعية الصداقة البحرينية البريطانية منذ 1999.

مايكل رايس

تاروت (Tarut): جزيرة سعودية بالخليج (انظر الخارطة). هي من اوائل حواضر شرق الجزيرة العربية، اذ تعود للالف الثالث قبل الميلاد. كانت مركزا رئيسا في حضارات المنطقة القديمة، كالعراق (مابين النهرين) وإيران (عيلام) وشرق العربية (البحرين). برزت تاروت في الصناعة والمِلاحة، وتمتع ميناؤها بشبكة تجارية واسعة.

مصر القديمة (Ancient Egypt): بدأ الإستقرار البشري في مصر نحو 5000 سنة قبل الميلاد. آنذاك، كانت مُدن مابين النهرين (بين دجلة والفرات في العراق) قد أسست حضارة الإنسان الأولى، وكانت البشرية تخلو من التمدن إلا في حواضر مابين النهرين ومصر. وتعرفت مصر على حضارة مابين النهرين (بامتدادها في الخليج) وباقي حضارات غرب آسيا (كعيِلام في إيران وديلمون في الخليج العربي) وتبادلت التجارة والثقافة معها.

وتاريخ مصر القديمة هو من فترتين رئيستين: مصر ما قبل الفراعنة أو فترة ما قبل الأسرات الفرعونية، وفترة الأسرات (Dynastic) التي توحدت فيها مصر تحت حكم أسر من الملوك أو الفراعنة. وتنقسم كل فترة من هاتين لفترات أصغر.

ماقبل الأسرات (Predynastic): الفترة (5500 – 3100 ق م) التي سبقت قيام مصر الفرعونية. كانت مصر مجزئة لمصر العليا (جنوب مصر) ومصر الدنيا (شمالها)، قبل أن توحدها أسرات الفراعنة. وتنقسم فترة ماقبل الأسرات لثلاث فترات: نََقادة الأولى (4400 – 3500 ق م) والثانية (3500 – 3200 ق م) والثالثة (3200 – 3000 ق م).

في القرن التاسع عشر، ساد رأي بأن مصر الفرعونية أسسها محتلون من غرب آسيا، أي أن عِرق الحكام الفراعنة ليس مصريا. إن المعلومات الأثرية الحالية ترفض نظرية العِرق الحاكم، ولا يتبناها اغلب الباحثين المعاصرين، ومنهم رايس.

هيراكونبوليس (Hierakonpolis): مدينة من أوائل حواضر مصر القديمة وأهمها، إذ تعود لـ 4000 ق م. كانت عاصمة مصر العليا (جنوب مصر)، وموقعها بين الاقصر وأسوان في مصر المعاصرة (انظر الخارطة).

عيلام (Elam): حضارة نشأت في جنوب غرب إيران، وهي من أقدم الحضارات البشرية (2700 – 539 ق م)، وتعتبر بداية التاريخ الإيراني.


Map showing the area of the Elamite Empire (in red) and the neighboring areas. The approximate Bronze Age extension of the Persian Gulf is shown.
إمدُكُد (Imdugud): كائن خرافي بجسد نسر ورأس أسد، آمن السومريون (في مابين النهرين) أنه طاثر رياح الجنوب الإلهي، الذي يصنع العواصف بجناحيه وزئيره.

امدكد

شارك التدوينة !

عن علي آل عمران

تعليق واحد

  1. تاروت , المدينة التي انتمي اليها ولا اعرفها

أضف رد على حور إلغاء الرد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

© Copyright 2013, All Rights Reserved