-١-
مصطلح “فَقِيه السلطان” يَغفل ضرورة القصر في تاريخ نشوء وحفظ الإبداع، فالفقاهة وباقي مهن الإبداع (الآداب والفنون الجميلة، العمارة، المنطق، الفلسفة، ..) لم يقدر أو يرغب على تمويلها إلا القصر (ومحيطه). ففي تلك الأزمنة، لم يوجٓد فائض مال إلا في القصر [١]، وكان ممولَ وزبونَ المبدِع. والمبدِعُ يلتزم بشروط الإنتاج عند مموله.
ضم َّعلي الوردي النحوَ والمنطق لمنتجات “الطبقة الفراغية” [٢] (عِلية المجتمع)، وأهمل الفقه وهو منهم. نشأ وتطورٓ الفقه بشروط (تعليمية، تقنية، اقتصادية، بيئية، ..) لم توجد إلا في دوائر ضيقة ميسورة في المدن القليلة آنذاك، واستمر ضِيق هذه الدوائر حتى ظهور الأشكال المعاصرة للتقنية والإقتصاد والدولة.
“المثقف الشحاذ” هو مصطلح طريف آخر، بصياغته وما تحمِل من إستعابة. المبدع المسترزِق القصرٓ ليس نسقاً ثقافيا عربيا (فقط) [٣] ولا معيبا، بل هو عالمي وحٓسٓن بذاته. لطبقات اليُسر القليلة في الإقتصادات القديمة فضلُ تنشأة ورعاية صنوف الإبداع، رغم إساءة هذه النشأة لانتشار المعارف المعاصر. وبعد الإنتشار الحديث لفائض المال عند الأفراد، وجد المبدعُ (الفقيه، الأديب، منتج هوليوود، المهندس، ..) قطبٓ مال غير القصر وأضخمٓ منه وقادراً على تمويلِ المبدع وإثراءِه، وصار المبدع ينتج للقطب الجديد أيضا وحسب شروطه (الشعبية). أي يمكن الإدعاء أن “شحاذة” المثقف باقية، وتوزعت بين القصر والشارع! إن انتشار فائض المال الفردي أعاد تشكيل المنتجات، ومنها منتٓج الفقيه.
إن النزاع على الفقه اليوم لا ينفصل عن النزاع على الفن وغيرهما، فهذه الآداب نشأت وتشكلت بطباع القصر في أغلب تاريخها، قبل أن يبرزٓ زبون ينازِع لتطويعها نِدّٓاً لما نشأت عليه، ويُلبسها ذوقه ومنافعه. إن الثقافة الشعبية المعاصرة في الفنون والآداب ليست سٓقطة ذوق، بل خروجٌ من زُخرف القصر وإعادةٓ تشكّلٍ لقطب الشارع وشروطه، بعد أن برزت للأفراد سلطة إقتصادية ومعرفية على الإبداع. [٤]
ثم أن القلق من تلوث الفكرة (وخاصة الدينية) بالمال ليس أعظم أخطارنا بعد ثورة الصناعة، فقد جعلت الصناعة للتقنية (وهي المحسوس من الحضارة) أثراً كونيا للضر والنفعِ قد يجاوزُ حدود حركة الفكرة (فالتقنية هي الوسط الذي تظهر وتتحرك وتتكاثر فيه الفكرة خارج أذهاننا)، ومع عِظم اثر التقنية تعظُم تبعاتُ انحيازها لمموليها ومخالفتُها لأخلاقياتها. [٥]
– ٢ –
التشريع (منتَج الفقيه) يحتاج مؤسسة سياسية، فالفتوى (في أي دين) هي مثل نظام المرور وتعليمات النوم المبكر في العائلة، إذ تفصِح عن تراتبيةٍ واستحواذٍ على الإكراهِ وشروطِ ضٓمٍّ وطرد (ولاء وبراء)، أي مؤسسة سياسية. [٦] وهذا مما قرّب الفقيه والسلطة.
ونعني بالسلطة كل مركز سيادة في تنظيم المجتمع، في البيت وخارجه، ومنها الأقطاب الناشئة. ومواقف هؤلاء المتنافسة على الإستحواذ على الفقه قد تعود لأحد هذين الهدفين:
أ. الإستحواذ على الحق في الإكراه، وبالهيئة التي يقدمها الفقه. ومن هؤلاء جماعات طائفية قديمة وحديثة ببرامج سياسية.
ب. نزع الإكراه من الفقه، بتبني قراءات مقابِلة. وهؤلاء مدفوعون بمبادىء فردانية حديثة، وبرنامجهم سياسي أيضا، حتى وإن نفوا عن نفسهم هذا الطموح، فهم سياسيون بحجم ما يودون تعويضه في مشروع نِدّهم السياسي.
إن النزاع الطاغي على الفقه اليوم هو نزاع على السلطة (ونمطها)، أي أن موضوعه السيادة لا الهداية.
– ٣ –
محظوظ من كان ساكتا أو ضعيفا، فالساكتُ ينقد قولٓ المتكلم والضعيفُ ينقد فِعلٓ القوي. لكن الكلام لا يقارن إلا بمثله وفي زمنه، وكذلك الفعل. مقارنة متكلمَين أو فاعِلٓين هي ما يفرّقهما أو يظهرهما توأمان في رحم حضاري واحد.
لكن مقارنناتنا التاريخية اعتادت ملىء فراغ الكلام أو الفعل بمثاليات حديثة (أي مقارنة “واقعهم القديم”بـ “نموذجنا النظري الحديث”)، واعتادت نُصرة الغياب على الحضور.
– ٤ –
يغالط من يحتكر المظلومية (ومن ثَمّ قيمتها السياسية) في تاريخنا أو تاريخ غيرنا، ففي أزمنة البؤس والتوحش وطبقات القهر تلك، لم ينجو أحد!
ويخطىء من يظن أن الظلم يُصلح المظلومٓ، أو أن مظلوما (ما) كان قادرا (دون غيره) على تعلم العدل، وكأن مفهوم العدل الحديث كان فكرة دانية لكل مظلوم.
ولم ينجو أحد آنذاك من تشريع أحكام القهر والعزل والفناء ضد الآخر الفكري أو الجسدي. وعادة ما كان نصيبُ الآخر الفكري من خارج الجماعة العزلَ ونصيبُ الآخر الداخلي (أي داخل الدين أو الطائفة) الفناء، وكأن اللُّوثة خارج الجسد يكفيها الإعتزال وآفة الجسد دوائها البتر.
فقه الآخر هذا لم تختص به جماعة واحدة من طائفة او دين، كما لم يعطي تطبيقُه إلا السوء. تجارب تنقية الجماعة هي مثل بتر سالب مغناطيس، إذ يخلفه سالبٌ آخر في جسد اصغر وقطبٓين أضعف.
– ٥ –
يثور الإمام ليؤسس دولة ويصير خليفة، ثم يجاهد ليوسّعها ويحميها. ومن انقطع تاريخه عند الإمامة انقطعت أدبياته عند الثورة.
أنجحُ مشروعاتنا الإحيائية هو التأصيل الشرعي للإكراه ضد المجتمع والدولة، والأخير تأصيل لتراثين وقطبين: ثورة الإمام وجهاد الخليفة. من الخطأ الدعوة لوقف ترويج أدبيات جهاد الخليفة وحدها، إذ علينا وقف ترويج أدبيات ثورة الإمام أيضا، إذا أردنا مواجهة تأصيل صراع الخليفة ونائب الإمام.
هوامش:
١. من هذا ملاحظات ابن خلدون ومستكشفي آثار الرأسمالية في الاقتصادات القديمة (كماكس فيبر).
٢. هذه ترجمة علي الوردي لمصطلح Leisure Class، وسمات الطبقة (كما أخذها من “نظرية الطبقة الفراغية”) ألهمته وصارت ثالثة آثافي آعماله. والركيزتان الآخرتان هما طوبائية العقيدة (من “العقيدة وطوبى”) وثنائية البدو والحضر الخلدونية. في مواطن كثيرة، بقى الوردي موطِّناً ومشيْعاً للأثافي الثلاث.
٣. لا أظن أن نسٓقٓي “المثقف الشحاذ” و”الفحل” من مفرَزات الشعر او الثقافة العربيّتين، بل هما صنيعة تنظيم اجتماعي كان واسع الحضور عالميا. وقد أدوّن يوما عن نسٓق الفحل.
٤. من ذلك الأغاني والأطعمة السريعة والتصميم الحديث. منتجات الثقافة الشائعة (pop culture) النابذة لبذخ المنتَج وطقوسه ليست هبوطا في الذوق بل توسيع للتعبير عن هوية طبقة اجتماعية لم تملك سابقا هذا القدر من السلطة على الانتاج. ومن الخطأ تفضيل الفنون والآداب السابقة باعتبارها الإبداع المحض، بينما كان دافعها هاجس طبقي لهوية متعالية.
٥. “إعادة تعريف الحدود” هو من أهم آثار التقنية (خاصة الحديثة)، ومن هذا حدود قدرات ونتائج أخطار أخلاقية (moral hazards) غير مسبوقة تاريخيا في الحرب والسلم (كالسلاح والتلوث والتجسس والإهمال الهندسي الخ). مثلا، الإنهيار المالي العالمي في ٢٠٠٨ هو أساسا صنيعة تقنية، فضخامة المؤسسات المالية وترابطها وتعقيد منتجاتها هي نتيجة تقنية.
وإحاطة التشريع بتطور التقنية (للحد من مخاطرها الأخلاقية) تبقى متأخرة، لتفاوت المشرِّع والمشرَّع له هيكليا. تحديات حدود التقنية وتأخر استيعابها تظهر حتى في التشريع الفقهي، ومن الخطأ تقديمها كخصوصية فقهية.
٦. تُرجع الفكرة لماري دوغلاس في “الطهر والخطر”.