28يوليو

مطالعة كتاب: الجنس والمجتمع في الإسلام

“الجنس والمجتمع في الإسلام. ضبطُ الإنجاب قبل القرن التاسع عشر” [١] هو كتاب يناقش فيه باسم مُسلَّم أدبيات منع الإنجاب عند المسلمين من الفقهاء والأطباء والصيادلة والأدباء، ويُظهر الكتابُ سمات موقف المجتمع المسلم تاريخيا وفرادته قبل القرن ١٩م. في هذه التدوينة، أوجزتُ محتوى الكتاب (أو ما رأيت إبرازه) وذيّلته. وبذا، أقاسمُ مُسلّٓمٓ التدونية؛ له المَتن ولِي الهامش!

مختصر الكتاب

لاحظَ إحصائيو سكانٍ غربيون صعودا قصيرا لأعداد سكانية غربية بعد الثورة الصناعية، وفسروا ذلك بـ “نظرية التحول” من مواليد ووفياتٍ مرتفعة قبل الثورة الصناعية، إلى مواليد مرتفعة (أو تقليدية) ووفيات منخفضة، ثم إلى مواليد ووفيات منخفضة منذ القرن ١٩. ولما نظروا لـ “الإنفجار السكاني” في العالم الإسلامي، أسقطوا النظرية عليه ووضعوه في مرحلة مواليد تقليدية او زراعية أو قبل-حديثة. ولم يشاؤوا الإلتفات لتاريخية انتشار ضبط الإنجاب عند المسلمين لأن أولئك المختصين فهموا الضبطَ رديفا للمجتمعات الحداثية. ولم يلحظوا أن تحوّل العالم الإسلامي ربما عاكس الغربي، إذ مارس المسلمون ضبط الإنجاب حين غيّبه الغرب، وغيّبوا الضبط حديثاً لمّا مارسه الغرب.

إجماع الفقهاء على إباحة منع الحمل (ممثلا بالعزل) لم يخالفه إلا ابن حزم الذي قال بنسخ رواية جُدامة عن النبي (“ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ”) للأحاديث المبيحة. وقد عدّد الفقهاء عِلَلَ منع الحمل في مجتمعاتهم، كحماية جمال الزوجة وتجنيبها خطر الولادة وحفظ السرايا من العتق.

وتكررت عِلّة دفع حرج عناء الكسب، فأيدها الغزالي وقال “قِلّة الحرَجِ مُعين على الدِّين”، وذكر الشوكاني أن من دوافع مجتمعه كان تجنب كثرة الأولاد. وهذا الإفصاح عن البواعث الإقتصادية مُلفت، إذ لم يظهر خارجٓ الإسلام مثلُه قبل أواخر القرن ١٨، في حملتَي جيرمي بينثام (لخفض الفقر الإنجليزي) وميلبليس [٢] (لمنع الحمل) [٣]. وضمّت عِلل الفقهاءِ الخوفَ من استعباد الأبناء، حتى أن الحنابلة أوجبوا منع الإنجاب في دار الحرب (ربما للمواجهات الإسلامية البيزنطية بشمال سوريا)، بل إن فقهاء مسلمين لاحقين أباحوه مطلقا في “سوء الزمان” أو “فساد الزمان”. [٤]

إستقرار المسلمين على إباحة منع الحمل، مقابل اتفاق اليهود والمسيحيين على تحريمه، جعل إباحته كليشه ثقافي. [٥] وقد أقام عمومُ الفقهاء حُكمَ الإباحة على قبول الزوجة الحرة بالعزل، إذ لها حَقَّي الإنجاب والمتعة. ولو أزلنا نقاش حق المرأة لما بانٓ العزلُ في متون الفقه.

ورأى الشافعية وحدهم جواز العزل بلا إذن الزوجة الحرة، بينما أكد الحنابلة على حَقّيها واشترطوا إذنها، ورفعوا شرط الإذن في دار الحرب. والأحناف الأوائل أشترطوا إذن الزوجة، ثم جاء بعدهم من أجاز منع الإنجاب بدون إذنها لسوء الزمان، وبذا أُعطِي سوءُ الزمان أسبقيةً على حق المرأة. والمالكية اشترطوا إذن الزوجة، وأجازوا لها طلب المال مقابل إذنها. واشترط الاثناعشرية إذن المرأة كذلك، وأجازوا تثبيت الإذن في عقد الزواج، وقضوا بدفع المال للزوجة عند العزل خلافا للعقد.

إعتمدَ المسلمون العلومَ لفهم النصوص الشرعية المتصلة بأطوار الجنين ومساهمةِ الوالدَين في تكوينه. ورأسَ تلك العلوم أبقراط وجالينوس (في الطب) القائلَين بوجود ماءٍ للمرأة يساوي ماء الرجل في تكوين الجنين، وأرسطو (في الفلسفة الطبيعية) الذي قال ان ماء الرجل يصنع الجنين من دم الطمث. وفي زمن جالينوس أُكتشف المِبيض وتأيّد ماءُ المرأة بقرينة جهلَها أبقراط وأرسطو [٦]، وبعد جالينوس صار “الأطباء” و”الفلاسفة الطبيعيون” خصمين يتصدّر خلافاتَهما موضوعُ الحمل. ولما واجه الفكرُ الديني الاسلامي آراء العلم في الحمل، لم يواجه جسدا متّحدا، إذ قدّم الطبُ عوناً كبيراً للأفكار الإسلامية عن الحمل، وأعطَى أبقراطُ الفقهاءَ السند النظري الأقصى لإباحة منع الحمل. [٧]

رَمَّ ابنُ سينا بيولوجيا أرسطو وأحصنَها على الجالونيسية، ففضّل فلاسفة المسلمين والغرب شروحه بدل كتب أرسطو. وضلّت الكتابات الشرعية الإسلامية الأقسى مخالَفةً للأرسطية، لاتفاق أبقراط والقرآن على تساوي مساهمة الوالدَين واتفاق جالينوس والحديث على أطوار الجنين، واستورط الأرسطيون (كأبي بكر الرازي) في تعقُّل الشريعة، بينما جنى ابن القيّم الجوزية (ولم يكن أرسطيّا) كُلَّ النفع من اتفاق الطب والشريعة [٨]، ورحّب بفرصة تأييد الوحي بمعارف دنيوية.

تصدّرت نظريةُ تٓساوي مساهمة الوالدَين حُججَ الغزالي لإباحة منع الحمل، ويصعب فهمُ إجماع الفقهاء على الإباحة بدون هذه النظرية، إذ لم يجعل الفقهُ لماءِ الرجل أو المرأة حُرمةً وحده، فهو “لا شيء” عند الغزالي و “غير يقيني” عند القرطبي قبل اتحاد المائين، والأقرب أن الغزالي والقرطبي إطّلعا على رأي الأرسطيين (كابن سينا) الذي يُعلي ماء الرجل ويراه حاملا لروح الإنسان.

إباحة الفقهاء لمنع الحمل فسَحت للأطباء والاُدباء نقاشه، فجمع الرازي في الحاوي ١٧٦ وسيلة منع إنجاب للجنسين، مثّلت ٨٠٪‏ مما سجّلته المدوَّنات العربية بعده. وفي حين خَصَّ الفقهاء العزلَ بنقاشهم، لم يعتني به الأطباء، ربما لأن الأسئلة المحيطة به شرعيةٌ وليست طبية. واختص الأطباء بالموجِبات الطبية لمنع الحمل، وحدُّوها بصغر المرأة او علّة في رحمها، وأوضح أبو الحسن [سعيد بن هِبة الله] الطبيب أن ما عناه أطباء العهد الوسيط بـ “الصغيرة” هي من تحت ١٥ عاما [٩].

وحتى بدايات القرن ٢٠ (قبل ابتكار حبوب منع الحمل)، ركّز الطرحُ الطبي على وسائل المرأة [١٠]، وهي وسائل موضعية (تعيق الإخصاب فيزيائيا او كيميائيا) إنحدرت من الطب العربي الذي قدّم المخزونَ الأكبر لوسائل المرأة. بل إن التركيز على هذه الوسائل هو سمة مميِّزة للطب العربي.

وقدّم الطبيب العربي اليهودي هِبة الله بن جُمَيع (طبيب بلاط صلاح الدين الأيوبي) منع الإنجاب في كتابه إرشاد المصالح، رغم تحريم اليهودية لـ “تدمير البذور”، مما يُظهِر أن منع الإنجاب كان رُكنا أساسا لمُتون الطب العربية مهما كانت قناعات المؤلف، فالموضوع كان مطلباً لمهنةِ الأطباء وجمهورِهم المسلم. ويبيّن ابن ميمون (الطبيب اليهودي لإبن صلاح الدين) الأمر أكثر، فقد قال بالقبح المطلق لتدمير البذور عندما وثّق الشرع اليهودي، لكنه نصح حاكمَه المسلم بالعزل. وبينما خلت الترجمة العبرية لقانون ابن سينا من شروحه لمنع الإنجاب، أبقتها الترجمة المسيحية اللاتينية، لكن متعلمي أوروبا (وأغلبهم من رجال الكنيسة) تجنبوا نقل حديثه إلى مؤلفاتهم عن كتاب القانون، وهكذا فعل ألبيرت الكبير. [١١]

لكن رسالة ابن البيطار في الأدوية المفردة تظهِر انحدارا لاحقا في عقلانية الطب العربي، فأغلب عقاقير منع الإنجاب من المأكولات، ولم يعرف الطب عقارا فاعلا كهذا قبل حبوب منع الحمل في القرن ٢٠. وتذْكِرة داود الأنطاكي تشهد أيضا على الإنحدار، إذ قدَّمت طلاسم سحرية لمنع الإنجاب، مما أُعتبر علامة لسقوط الطب العربي.

وأظهرت مؤلفات الباه العربية (كالروض العاطر) إسهابا في نقاش منع الحمل لم تألفه مثيلاتها الهندية والصينية، بل إن الكِتاب العربي الواحد ذَكرَ عن منع الإنجاب ما لم تذكره أدبيات الشبق الهندية والصينية مجتمعة.

ولا تعود وصفات كتب الباه لمؤلفات الطب، بل ترجع للتراث الشعبي. وخلافا لكتب الطب، تُغلِّب كتبُ الباه وصفاتَ الرجل على وصفات المرأة (كما يبرُز في عودة الشيخ إلى صباه)، وبِذا تُناقِض كتبَ الأدوية التي تكاد تهمل وسائل الرجل، ربما لأن مؤلفات الباه كتبها الرجال للرجال، بينما النساء يرجعن للصيادلة.

كما يتكرر ذِكرٌ عفويُ لمنع الإنجاب في رسائل الأدب، ورأى الجاحظ أن منع الإنجاب سِمة للإنسان تميزه عن باقي الحيوان. وتصطفُّ الرسائل مع كتب الباه في تفضيل وسائل الرجل، وتفضيلُ الآداب الشعبية لوسائل الرجل (عكس كتب الطب والأدوية) هو إفصاح عن رغبتها في حُكْم منع الإنجاب لرجال مجتمعها.

وتُوافِق كتبُ الباه كتبَ الأدوية في الأخذ بعقاقير التراث الشعبي التي لم تعرضها كتب الطب، ولم تكن هذه العقاقير جديدة، لكن الأطباء انتقوا ما وافق تجربتهم من كتب الأدوية. وهكذا حالُ وصفات السحر، فالحاوي ذكرَ وسيلةٓ سحر واحدة ونعتها بالبدعة، بينما خلى كتابُه المنصوري من السحريّات. وكمُتون الطب، خلت كتب الباه (للتيفاشي والنفزاوي وابن الجوزي والنويري) من وصفات السحر.

وخلت كتب الفقه من الوسائل السحرية والعقيمة، وتظهر قيمة تاريخية لهذه الكتب عند مقارنتها برديفاتها الغربية المكتوبة قبل القرن ١٨، والتي سادتها وصفات الأكل والسحر.

وإباحة منع الإنجاب لا تثبت ممارسته، بل تثبتها آثار انتشار الممارسة، كنقاش الفقهاء لإنكار ممارس العزل لأبوّته، ونقاش حق المرأة، والإهتمام البالغ بوسائل الرجل في الأدبيات الشائعة ككتب الفقه والباه.

وضبط الإنجاب قد يفسِّر انحدار أعداد سكان مصر والشام الذي استمر للقرن ١٩ وأرجعٓه باحثون للأوبئة والفيضانات والحروب. وتٓظهر فرادة مصر بملاحظة التعافي السريع لأعداد سكان أوروبا بعد الطاعون وتضاعُف سكان الصين ٦ مرات في ٤٠٠ عام بعده، بينما تأخرت مصر. ربما تواطأ ارتفاع وفيات المواليد مع انخفاض الخصوبة، فموجات الطاعون (التي كانت أشد فتكا وأكثر تكرارا مما أصاب أوروبا) [١٢] أضافت لمآسي زمنٍ نعته أهله بالسوء والفساد، مما جعل الفقهاء يبيحون العزل بلا شرط، كما في كلام ابن الهمام والطهطاوي وابن نُجيم وابن عبدين.

حاشية المدوِّن

١)

– Musallam, Basim. Sex and Society in Islam: Birth Control before the Nineteenth Century. Cambridge University Press, 1983.

٢) هما الفيلسوف جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) والمصلح الإجتماعي فرانسيس بليس (١٧٧١-١٨٥٤)، والإثنان ناصرا المالتوسيه المُحدَثة، وهي حركة بدأها بليس وأخذت بمخاوف الإقتصادي والقس الإنجليزي توماس مالتوس (١٧٦٦-١٨٣٤) من تكاثر السكان، لكنها خالفته بالدعوة لموانع الحمل بدل تأخير الزواج.

ورأى مالتوس أن أعداد البشر تجاوزت قدرة إنتاج الأرض الغذائية، وإن لم نخفض التكاثر بتأخير الزواج فسنبقى في دورة حتمية من زيادة السكان ثم خفضه بـ “البؤس والرذيلة” (كالأمراض والهجرات والحروب). ومقولة ذُروةِ الموارد هذه (والتي ألهمت ذُروةَ النفط) هي من النظريات التي لا يُشك في علميتها، لكُثر ما دُحضت!

واحتُجز ميل ذو السابعة عشر بتهمة الترويج لدعوة بليس لموانع الحمل. ودعت مطويات بليس النساءَ للعزل بقطعة إسفنج، وربما جاءت الوسيلة من فرنسا حيث انتشرت لتحديد النسل. وذكر العرب هذه الوسيلة التي تطورت لاحقا لتصبح اللولب (IUD)، ويلاحظ مُسَلَّم أن كل وسائل منع الحمل التي عرفها الغرب حتى القرن ١٩ كانت عند العرب.

– Malthus, T. R. An Essay on the Principle of Population. Dent, 1967.

– Cook, H. The long sexual revolution: English women, sex, and contraception; 1800 – 1975. Oxford: Oxford University Press, 2007.

– “The Place of John Stuart Mill and of Robert Owen in the History of English Neo-Malthusianism”, The Quarterly Journal of Economics, Volume 42 (August, 1928), Pages 627–640.

٣) رأي مُسَلَّم هذا يعارض مباشرة قول نورمان هايمز “لا أذكر رؤية تبرير اقتصادي [لمنع الحمل] قبل دفاع جيرمي بينثام (١٧٩٧) عن استعمال الإسفنجة لخفض نسبة فقراء الإنجليز، و حملة ميل-بليس (١٨٢٣-١٨٢٥)”.

ذكَرَ هايمز هذا في كتابه “التاريخ الطبي لمنع الحمل“، عند الاشادة بذكر الطبيب العربي علي بن عباس للدواعي الطبية لموانع الحمل في “الكتاب الملكي”، فنورمان رأى نُدرةَ نقاش الدواعي في التاريخ المبكر لموانع الحمل وغيابَ الداعي الاقتصادي. وامتدح نورمان دعوة علي بن عباس لإبقاء وصف موانع الحمل بين الأطباء وتحت إشرافهم لضبط العواقب الطبية.

ورأى هايمز غياب الدوافع الإجتماعية أيضا قبل بينثام وميل-بليس، وهذا موطن خلاف ثاني مع مُسلَّم الذي قال بأسبقية الحنابلة، عندما أوجبوا منع الإنجاب في دار الحرب.

وسيماء بحث مُسلّٓم تُبطِن خلافا آخر في شأن الدوافع، فمُسلَّم أبرز دواعي الفقهاء القانونية والإجتماعية، وهي غابت عن كتاب هايمز المحدود بالتاريخ الطبي. وقد رأى مُسلَّم تقاسم مهامٍ بين فقهاء وأطباء مجتمع الإسلام، فالفقهاء اشتغلوا في الدواعي القانونية لموانع الحمل، بينما اشتغل الأطباء بالدواعي الطبية في الحدود القانونية التي خطّها الفقهاء.

٤) وفوق ما تظهره النصوص من دوافع الحاجة لطُرق تنظيم نسل، يبدو أن بروز موانع الإنجاب عند المسلمين دفعَته حماية الإسلام لأنفس الأجنة والمواليد، مقارنة بأحوال المجتمعات القديمة. ففي المجتمعات التي أطلقت التصرف في الأجنة (بإطلاق الإجهاض) والمواليد (بالقتل او النبذ)، لم يجد الناس حاجة لغير هذه الطرق الحاسمة.

٥) في عمله المهم عن تاريخ تشكّل صورة الإسلام في الغرب، قدّم نورمان دانييل منع الحمل ضمن القيم الجوهرية المخالِفة في الهوية المشرقية-الإسلامية كما رآها الغرب، وبذا يفهم مُسلَّم أن دانييل يرى ضِمنا أن رؤية الغرب تلك ساهمت في تعريف الغرب لهويته النِدّ، ليصير رفضُ موانع الحمل ركنا فيها.

– Daniel, Norman. Islam and the West: the Making of an Image. The University Press, 1962.

٦)  أسس الجالينوسيون من اكتشاف المبايض التصورَ المعاصر بأن هيكل الجهاز التناسلي متشابه عند الجنسين، لكن الأرسطيين لم يجدوا في اكتشاف المبيَضين ما يثبت وظيفتهما التناسلية، فالأرسطي ابن رُشد (مثلا) دافع بحجة داروينية قائلا “وأما الأنثيان اللتان يزعم جالينوس أنهما توجدان للمرأة، فيشبه ألا يكون لهما تأثير في الولادة. وليس ذلك بغريب: فإن الثدي في النساء لمكان الولادة، وليس لها في الرجال هذه المنفعة”.

وما حسمَ مذهبٌ الجدلَ لنفسه، “فليسَ عندَهم عليهِ دليلٌ إلا الأخلقَ والأولى والقياس” (بلفظ ابن القيّم). وظلت نظريات الإنجاب بالمئات، حتى حدّها اكتشاف المجهر والحيوان المنوي في القرن ١٧، ثم حسمَ الأمرَ فهمُ صلة الحيوان المنوي بالحمل في القرن ١٩، كما لخّص هايمز.

– إبن رُشد. الكُليّاتُ في الطب.

– إبن القيّم. تُحفة المودود بأحكام المولود.

٧) عن مساهمة الوالدَين في الإنجاب، قال بعض اليونانيين بمذهب المائين (أي أن للأنثى ماء كالذكر)، وقال غيرهم بماء واحد (من الذكَر وحده). وأخذ الطبيب أبوقراط بالمائين، ثم جاء الفيلسوف أرسطو وناصر مذهب الماء الواحد، ثم أكتُشفت المبايض بعد أرسطو وجاء الطبيب جالينوس مؤيدا للمائين ومستدلا بالمبايض.

وتفسيرا للصفات الوراثية، ساد التفكيرَ نظريةٌ عامة منذ قدماء اليونان حتى بعد داروين، وسمى داروين النظريةَ “شمولية التخلق” (pangenesis) ووافقها، وتجتمع نُسخ النظرية على أن ماء الإنجاب يجتمع من أجزاء الجسد ليحمل صفاتها للجنين. ونسخة أبوقراط من النظرية تقول أن ماء الذكر والأنثى تُنتَزع أجزاءه من أعضاء الجسد، ولذا تصبح مادة الجنين مجموعا لتلك الأعضاء وشبيها لها.

لكن أرسطو قال أن ماء الرجل لا يُنتزع من الأعضاء، بل هو فائض دم ناضج قبل دخوله الأعضاء. وظن الطب القديم أن الدم هو غذاء ناضج ذو طبيعة واحدة قادرة على الإختلاط بكل جزء في الجسد والتشكل بهيئته، و بتعبير ابن سينا “أن الغذاء يصير دما أولا ومادة مشتركة، ثم تكتسبُ الإختلافَ بعد ذلك”، وهكذا كان فهم الأرسطيين للمني الذي رأوه من فائض الدم الناضج وشبيها له بكونه “مادة مشتركة، ثم تكتسب الإختلاف بعد ذلك”، مثل فهمنا المعاصر للخلايا الجذعية في الأجنّة.

– إبن سينا. الشفاء، ج٣.

٨) ناصرَ ابنُ القيّم بيولوجيا أبقراط ضد أرسطو، اذ قال بالمائين ونسخة أبقراط من شمولية التخلق، لكن هذا الموقف الجوهري الموفِّق بين الطب والشرع جاء مشوبا بنقائضه. 

خالف ابن القيّم منهجه ورأيه عند تفسير كون “الولد للأب حكماً ونسباً” بالقول “والأصل هو الذكَر فمنه البدر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها”، إذ خرج عن عادة عرض آراء علوم عصره والترجيح بينها، وقال بما يخالف أبقراط والنصوص الموافِقة. وتصوير الجنين كبذرة الذكَر في أرض الأنثى يُغفل أن نبتة المولود من بذرتين كما بيّن ابن القيّم من الشرع والطب. والتصوير يعارض حتى مدرسة أرسطو المقابلِة، فهي لا تقول أن الأنثى وعاء لبذرة الذكر او مادة الولد من الأب، بل ترى أن مادة الولد من المرأة وحدها ومنيّ الرجل يشكّل تلك المادة “كما يصنع النجار الكرسيَّ من الخشب”. إن مثال البذرة والأرض يعارض المعرفة الطبية والفلسفية في زمن ابن القيّم، ويناقض موقف ابن القيّم الذي جاهد له.

والملفت أن هذه النسخة الحادة من مذهب الماء الواحد تطابق تعبير اليوناني التراجيدي إسخيلوس، وهو ممن قالوا بالماء الواحد قبل أرسطو، كما في مقطع أوريستيا المعروف:

The woman you call the mother of the child

is not the parent, just a nurse to the seed,

the new-sown seed that grows and swells inside her.

The man is the source of life-the one who mounts.

يبدو أن مثل هذه الفكرة القديمة كان منتشرا زمانا ومكانا، ويُلتَقط لحاجة ربما عارضت مذهب قائلها.

وأخذ ابن القيّم بنسخة أبقراط من شمولية التخلّق لتفسير الصفات الوراثية، وفي هذا نُصرةٌ أخرى لأبقراط ومدرسته ضد أرسطو ومدرستِه. بل ونقَل شمولية التخلّق لمقاربةٍ ممتعة لخلق الإنسان الأول، مبينا لغويا أن كلمة سُلالة (في “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ” و“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ”) تعني شمولية التخلّق في الحالين، باستلال مادة المني من أجزاء جسد الإنسان واستلال الطين من أجزاء جسد الأرض.

وبذا أخذ ابنُ القيّم شمولية التخلّق لأبعد مما أراده منشؤوها، إذ ضم خلق الإنسان الأول ولم يكن هذا هاجسُ من أرادوها تفسيرا لنقل الصفات للأبناء، فتبنى النظرية وقدمها نسقاً دينيا شموليا للخلق بالقول “ولذلك سماه الله سلالة والسلالة فعالة من السَّل وهو ما يُسَلّ من البدن كالبخار كما سمى أصله سلالة من الطين لأنه استلها من جميع الأرض كما في جامع الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم ‘إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض’ “، وهذا من ولع الإنسان بالأنساق الشمولية.

ورغم تبنيه لمذهب أبقراط في شمولية التخلّق إلا أنه أخذ رأيا معارضا أيضا بقوله “أما الخصيان فلتوافر المني على أبدانهم يصير دمهم غليظا بلغميّا” وهذا من قول أرسطو بأن المني هو طعام فائض، ولذا يوجد عند الخصيان كغيرهم، فهو لا يحتاج حرارة الشهوة ليُستَل من أجزاء الجسد كما قال أبقراط. وتبعا لمذهب أرسطو، “المني فَضْلةٌ أعدّتها الطبيعة للدفع كسائر الفَضْلات” بلفظ ابن رشد، وبقائها يجعل الدم بلغميا مثلها.

– إبن القيم. التبيان في أقسام القرآن.

– Fagles, Robert. Aeschylus, the Oresteia: Agamemnon, the Libation Bearers, the Eumenides. Penguin Books., 1977.

٩) وحظر أطباءٌ حملَ الصغيرة حتى عند غير العرب، ومثّلَ هايمز لذلك.

١٠) فقبل القرن ٢٠، لم يعرف الطب أداة منع حمل نافعة إلا عوازل الأنثى، فاختارها ناشطوا المالتوسيه المُحدَثة لتولية المرأة على ضبط الإنجاب. ولما ظهر اللولب والعازل الذكري وحبوب منع الحمل، ظل رجاحُ وسائل المرأة، وزاد رجاحَها ذمُ النسويات لما هو ذكوري.

١١) تلاحظ مونيكا جرين أن الغرب المسيحي ترجم نصوص الأطباء المسلمين عن منع الحمل والإجهاض كاملة، رغم مخالفتها لمواقف قطعيّة مسيحية. ولم تجد جرين إستثناءً إلا تجنب قسطنطين الأفريقي ترجمة وصْفات الإجهاض لـ ابن الجزار.

كما تلاحظ جرين أن من كُتُب سِيَرِ قسطنطين الأفريقي ما طمس ذِكر كتاباته عن طب المرأة وطب الجنس، ففي زمن قسطنطين كانت أوروبا هي العالم الثالث، والعلوم الغربية المؤسلَمة عادت بمواقف شرعية عن الجنس ومنع الحمل والإجهاض تخالف جداً [أي أكثر تسامحا] ما كانت عليه الجماعة المسيحية المستقبِلة لتلك المعارف. وتضيف جرين أن مما فاقم التوتر بين العلم والدين في أوروبا كونُ لُب التراث الفكري للعلوم الأوربية اللاحقة جاء من جماعة حضارية وعرقية تختلف جوهريا عن أوروبا.

– Monica H. Green, “Constantinus Africanus and the Conflict Between Religion and Science,” in The Human Embryo: Aristotle and the Arabic and European Traditions, ed. G. R. Dunstan (Exeter: Exeter University Press, 1990), pp. 47–69.

١٢) يَحتمل مُسَلَّم أن المصريين حَدّوا الإنجاب بعد الطاعون، إضافة للأسباب التي رآها ستيوارت بورش وغيرُه من دارسي تأخر تعافي مصر مقارنة بالغرب.

قارن بورش إنجلترا بمصر ولاحظ تبعات إقتصادية حسنة بإنجلترا بعد الطاعون (كارتفاع الأجور وتنوع المحاصيل وانخفاض الأجار) ونقيضها في مصر. ورأى في مركزية إدارة الري المملوكية ومَحليّة مثيلاتها بإنجلترا السبب الأساس، ولاحظ أن مصر الرومانية تعافت مثل إنكلترا من وباء وقع وكانت إدارات الري محلية. 

وقد أحصى مايكل دولز ٥٦ وباءاً أصاب المشرق في نحو ١٦٠ سنة، ٣٤ منها ضمَّ مصر. ودعت الكثرةُ دولز للقول بأن الوباءً أقامَ في المشرق.

– Borsch, Stuart. The Black Death in Egypt and England, a Comparative Study. University of Texas Press, 2005. 

– Dols, Michael Walters. Black Death in the Middle East. Princeton University Press, 1977.

19يناير

القدوع الأخير!

-١-
علّقت أمي على كلمة “جَدُوعْ” ضاحكة: “الناس تركوا هالكلمة من زمان يا علي! ماحد يقول جَدُوع الحين. يقولوا فطور.” وكنت أمازحها بالكلمة.

على ضفاف الخليج، لم أعرف في طفولتي غير جَدُوعْ ونِجدع واجدع وجدعت، وهي كلمة نبذناها. لكن هل الكلمة تعني فطور الصباح؟ ام أن “جَدُوعْ” الخليجية و”قدوع” النجدية تعودان لأصل ومعنى واحد خصّصه أهل الخليج ونجْد لاستخدامٓين مختلفٓين؟

يبدو أن الكلمتين تعودان لمعنى مشترك هو “الوجبة الخفيفة”، وخصّه الخليجيون للصباح وحده، بينما خصّه النجديون للتمر وحده، وهناك من حرّره لمعناه المشترك وهو وجبة خفيفة من أي طعام وفي أي وقت.

وأظن أن “قٓدٓعٓ” الفصحى هي مصدر الكلمتين، وتنقل القواميس أن مادة “ق د ع” لها معنيان متباينان هما “الكف عن الشيء” و”التهافت عليه”، وفي سياقنا تعني الكفّ، وقيل “‫اقْدَعْ‬ من هذا الشراب” أي “اشْرَبْه قِطَعاً قِطَعاً”. ‫وقِدْعةُ‬ الثياب هي دُرَّاعةٌ [١] قصيرة، والمرأة القٓدُوعٌ هي كثيرة الحياء قليلة الكلام.

-٢-
وفي مجتمعات حوض المتوسط القديمة، كانوا يخصّون الوجبة الخفيفة الليلية بإسم تُرجِم لـ “supper” الإنجليزية. وتُرجمت الكلمة الانجليزية لـ “عشاء” العربية التي لا تعني عشاءً خفيفا بالتحديد.

-٣-
الجٓدُوعُ الأخير؟ القٓدُوعٌ الأخير؟

في كون موازي، دافنشي من أهل الجزيرة والقٓدُوع الأخير “فٓرْدة” [٢] تمر وفنجان قهوة!

هامش:
١. وكنا نسمي ثوب الرجل “دِرّاعة”، التي تعود لـ “دُرَّاعة” الفصحى. وكان الرجال والنساء يلبسون الدُّراعة في عهد النبي.

٢. بلهجة الخليج، “فٓردٓة تمر” تعني “حبة تمر”، وربما كانت الكلمة تأنيثا لـ “فرد”! وهي تُستعمل مجازا غالبا، بمعنى “بضع تمرات”.

16ديسمبر

عن الفقيه والقصر والتمييز

-١-
مصطلح “فَقِيه السلطان” يَغفل ضرورة القصر في تاريخ نشوء وحفظ الإبداع، فالفقاهة وباقي مهن الإبداع (الآداب والفنون الجميلة، العمارة، المنطق، الفلسفة، ..) لم يقدر أو يرغب على تمويلها إلا القصر (ومحيطه). ففي تلك الأزمنة، لم يوجٓد فائض مال إلا في القصر [١]، وكان ممولَ وزبونَ المبدِع. والمبدِعُ يلتزم بشروط الإنتاج عند مموله.

ضم َّعلي الوردي النحوَ والمنطق لمنتجات “الطبقة الفراغية” [٢] (عِلية المجتمع)، وأهمل الفقه وهو منهم. نشأ وتطورٓ الفقه بشروط (تعليمية، تقنية، اقتصادية، بيئية، ..) لم توجد إلا في دوائر ضيقة ميسورة في المدن القليلة آنذاك، واستمر ضِيق هذه الدوائر حتى ظهور الأشكال المعاصرة للتقنية والإقتصاد والدولة.

“المثقف الشحاذ” هو مصطلح طريف آخر، بصياغته وما تحمِل من إستعابة. المبدع المسترزِق القصرٓ ليس نسقاً ثقافيا عربيا (فقط) [٣] ولا معيبا، بل هو عالمي وحٓسٓن بذاته. لطبقات اليُسر القليلة في الإقتصادات القديمة فضلُ تنشأة ورعاية صنوف الإبداع، رغم إساءة هذه النشأة لانتشار المعارف المعاصر. وبعد الإنتشار الحديث لفائض المال عند الأفراد، وجد المبدعُ (الفقيه، الأديب، منتج هوليوود، المهندس، ..) قطبٓ مال غير القصر وأضخمٓ منه وقادراً على تمويلِ المبدع وإثراءِه، وصار المبدع ينتج للقطب الجديد أيضا وحسب شروطه (الشعبية). أي يمكن الإدعاء أن “شحاذة” المثقف باقية، وتوزعت بين القصر والشارع! إن انتشار فائض المال الفردي أعاد تشكيل المنتجات، ومنها منتٓج الفقيه.

إن النزاع على الفقه اليوم لا ينفصل عن النزاع على الفن وغيرهما، فهذه الآداب نشأت وتشكلت بطباع القصر في أغلب تاريخها، قبل أن يبرزٓ زبون ينازِع لتطويعها نِدّٓاً لما نشأت عليه، ويُلبسها ذوقه ومنافعه. إن الثقافة الشعبية المعاصرة في الفنون والآداب ليست سٓقطة ذوق، بل خروجٌ من زُخرف القصر وإعادةٓ تشكّلٍ لقطب الشارع وشروطه، بعد أن برزت للأفراد سلطة إقتصادية ومعرفية على الإبداع. [٤]

ثم أن القلق من تلوث الفكرة (وخاصة الدينية) بالمال ليس أعظم أخطارنا بعد ثورة الصناعة، فقد جعلت الصناعة للتقنية (وهي المحسوس من الحضارة) أثراً كونيا للضر والنفعِ قد يجاوزُ حدود حركة الفكرة (فالتقنية هي الوسط الذي تظهر وتتحرك وتتكاثر فيه الفكرة خارج أذهاننا)، ومع عِظم اثر التقنية تعظُم تبعاتُ انحيازها لمموليها ومخالفتُها لأخلاقياتها. [٥]

– ٢ –
التشريع (منتَج الفقيه) يحتاج مؤسسة سياسية، فالفتوى (في أي دين) هي مثل نظام المرور وتعليمات النوم المبكر في العائلة، إذ تفصِح عن تراتبيةٍ واستحواذٍ على الإكراهِ وشروطِ ضٓمٍّ وطرد (ولاء وبراء)، أي مؤسسة سياسية. [٦] وهذا مما قرّب الفقيه والسلطة.

ونعني بالسلطة كل مركز سيادة في تنظيم المجتمع، في البيت وخارجه، ومنها الأقطاب الناشئة. ومواقف هؤلاء المتنافسة على الإستحواذ على الفقه قد تعود لأحد هذين الهدفين:

أ. الإستحواذ على الحق في الإكراه، وبالهيئة التي يقدمها الفقه. ومن هؤلاء جماعات طائفية قديمة وحديثة ببرامج سياسية.

ب. نزع الإكراه من الفقه، بتبني قراءات مقابِلة. وهؤلاء مدفوعون بمبادىء فردانية حديثة، وبرنامجهم سياسي أيضا، حتى وإن نفوا عن نفسهم هذا الطموح، فهم سياسيون بحجم ما يودون تعويضه في مشروع نِدّهم السياسي.

إن النزاع الطاغي على الفقه اليوم هو نزاع على السلطة (ونمطها)، أي أن موضوعه السيادة لا الهداية.

– ٣ –
محظوظ من كان ساكتا أو ضعيفا، فالساكتُ ينقد قولٓ المتكلم والضعيفُ ينقد فِعلٓ القوي. لكن الكلام لا يقارن إلا بمثله وفي زمنه، وكذلك الفعل. مقارنة متكلمَين أو فاعِلٓين هي ما يفرّقهما أو يظهرهما توأمان في رحم حضاري واحد.

لكن مقارنناتنا التاريخية اعتادت ملىء فراغ الكلام أو الفعل بمثاليات حديثة (أي مقارنة “واقعهم القديم”بـ “نموذجنا النظري الحديث”)، واعتادت نُصرة الغياب على الحضور.

– ٤ –
يغالط من يحتكر المظلومية (ومن ثَمّ قيمتها السياسية) في تاريخنا أو تاريخ غيرنا، ففي أزمنة البؤس والتوحش وطبقات القهر تلك، لم ينجو أحد!

ويخطىء من يظن أن الظلم يُصلح المظلومٓ، أو أن مظلوما (ما) كان قادرا (دون غيره) على تعلم العدل، وكأن مفهوم العدل الحديث كان فكرة دانية لكل مظلوم.

ولم ينجو أحد آنذاك من تشريع أحكام القهر والعزل والفناء ضد الآخر الفكري أو الجسدي. وعادة ما كان نصيبُ الآخر الفكري من خارج الجماعة العزلَ ونصيبُ الآخر الداخلي (أي داخل الدين أو الطائفة) الفناء، وكأن اللُّوثة خارج الجسد يكفيها الإعتزال وآفة الجسد دوائها البتر.

فقه الآخر هذا لم تختص به جماعة واحدة من طائفة او دين، كما لم يعطي تطبيقُه إلا السوء. تجارب تنقية الجماعة هي مثل بتر سالب مغناطيس، إذ يخلفه سالبٌ آخر في جسد اصغر وقطبٓين أضعف.

– ٥ –
يثور الإمام ليؤسس دولة ويصير خليفة، ثم يجاهد ليوسّعها ويحميها. ومن انقطع تاريخه عند الإمامة انقطعت أدبياته عند الثورة.

أنجحُ مشروعاتنا الإحيائية هو التأصيل الشرعي للإكراه ضد المجتمع والدولة، والأخير تأصيل لتراثين وقطبين: ثورة الإمام وجهاد الخليفة. من الخطأ الدعوة لوقف ترويج أدبيات جهاد الخليفة وحدها، إذ علينا وقف ترويج أدبيات ثورة الإمام أيضا، إذا أردنا مواجهة تأصيل صراع الخليفة ونائب الإمام.

هوامش:
١. من هذا ملاحظات ابن خلدون ومستكشفي آثار الرأسمالية في الاقتصادات القديمة (كماكس فيبر).

٢. هذه ترجمة علي الوردي لمصطلح Leisure Class، وسمات الطبقة (كما أخذها من “نظرية الطبقة الفراغية”) ألهمته وصارت ثالثة آثافي آعماله. والركيزتان الآخرتان هما طوبائية العقيدة (من “العقيدة وطوبى”) وثنائية البدو والحضر الخلدونية. في مواطن كثيرة، بقى الوردي موطِّناً ومشيْعاً للأثافي الثلاث.

٣. لا أظن أن نسٓقٓي “المثقف الشحاذ” و”الفحل” من مفرَزات الشعر او الثقافة العربيّتين، بل هما صنيعة تنظيم اجتماعي كان واسع الحضور عالميا. وقد أدوّن يوما عن نسٓق الفحل.

٤. من ذلك الأغاني والأطعمة السريعة والتصميم الحديث. منتجات الثقافة الشائعة (pop culture) النابذة لبذخ المنتَج وطقوسه ليست هبوطا في الذوق بل توسيع للتعبير عن هوية طبقة اجتماعية لم تملك سابقا هذا القدر من السلطة على الانتاج. ومن الخطأ تفضيل الفنون والآداب السابقة باعتبارها الإبداع المحض، بينما كان دافعها هاجس طبقي لهوية متعالية.

٥. “إعادة تعريف الحدود” هو من أهم آثار التقنية (خاصة الحديثة)، ومن هذا حدود قدرات ونتائج أخطار أخلاقية (moral hazards) غير مسبوقة تاريخيا في الحرب والسلم (كالسلاح والتلوث والتجسس والإهمال الهندسي الخ). مثلا، الإنهيار المالي العالمي في ٢٠٠٨ هو أساسا صنيعة تقنية، فضخامة المؤسسات المالية وترابطها وتعقيد منتجاتها هي نتيجة تقنية.

وإحاطة التشريع بتطور التقنية (للحد من مخاطرها الأخلاقية) تبقى متأخرة، لتفاوت المشرِّع والمشرَّع له هيكليا. تحديات حدود التقنية وتأخر استيعابها تظهر حتى في التشريع الفقهي، ومن الخطأ تقديمها كخصوصية فقهية.

٦. تُرجع الفكرة لماري دوغلاس في “الطهر والخطر”.

6نوفمبر

الجوال المصرفي وباقي القنوات

قبل شهرين، وفي حلقة حوار مؤسسة Retail Banking International بالرياض، نُوقِشت عوائق سيادة الجوال على باقي القنوات المصرفية، واحتمال كون الثقافة (المحلية مجددا!) من المعيقات. سأسجل هنا رأيي في الموضوع.

لعجز الجوال (كتطبيق مستجيب أو أصيل أو هجين) عن سيادة باقي القنوات (الآن) سببٌ تُهمله نقاشاتنا، وهو وجود منافذ بديلة للعميل (كالهاتف والصراف الآلي) يُحَفَّز مديرُوها بالتساوي على جذب العملاء، أي أن قنوات المصرف تُدفع للتنافس بينها. في هذا الوضع، تُحسَّن خدمات الجوال فيهاجر العملاء من قنوات أخرى له، ثم تُحسَّن القنوات المهجورة فيحدث نزوح معاكس، لأن توزيع العملاء على القنوات هو لعبة محصّلتها صفر.

التطوير المتساوي للقنوات هو (أيضا) إنهاك متساوي للقنوات، بل وللمؤسسة. تكرار خدمة في عدة قنوات هو تكرار لأعباء الخدمة داخل إدارة القناة وكل الإدارات المساندة (كالتقنية والعمليات وشكاوى العملاء وأمن المعلومات والمخاطر والتدقيق). أي أن التضخيم المتساوي للقنوات يحتاج تضخيما معادلا في أرجاء المؤسسة، وهذا ضُر إن حدث أو لم يحدث. فإن حدث فهو تحقيق لتضخيم موازي لتكاليف ثابتة، وإن لم يحدث فستُحرم القنوات من الرعاية الكافية وتصير همّا داخليا ثابتا! وعادة ما تكون النتيجة الحرمان، لأسباب منها:

١) إهمال زيادة سعة الخدمات المساندة عند التخطيط لزيادة خدمات القنوات.

٢) تناقض سياسة تضخيم القنوات مع سياسة ضبط أعباء المؤسسة، وتكون الغلبة للأخير.

والحاليَن من أسباب النمو غير المتناسق لجسد المؤسسة، إذ تصبح المؤسسة جسدا ضخما على قدمين هزيلتَين.

ومن الخطأ حتى إبقاء كل الخدمات الموجودة في القنوات الاخرى. إن موارد المؤسسات المالية (كرأس المال والمواهب ..) شحيحة ويجب ترشيد توظيفها لما يراعي الضغوط المتكاثرة، وللتبسيط منافع هيكلية كبيرة وكثيرة. كما أن كثرة القنوات وكثرة خدمات كل قناة هو مما يُبعد فرصة تقديم تجربة عميل جيدة. إن تجربة العميل هي حكاية تربط كل نقاط لقاءه بالمؤسسة، وكلما كثرت وتعقدت نقاط اللقاء صعب حبْك حكاية ممتعة للعميل.

بعض أنصار التطوير المتساوي يآملون إعطاء العميل حرية الخيار، لكنهم لا يراعون هذه الفضيلة عند تشجيعهم العميل على ترك قناة الفرع لقنوات الخدمة الذاتية! ومحاولة استيعاب كل أحد (كزبون) أو تجنب خسارة كل أحد هي سياسة خاطئة طبعا، فنموذج عمل المؤسسة هو موقف، وكل موقف هو موضوع قبول ورفض من الطرفين. ثم إن أغلب العملاء الذين يُخَاف رفضهم الجوال هم مقيمون فيه، ولا يبدو أنهم من يعيق تقدم المؤسسة للمستقبل!

أغلب العملاء اعتادوا استعمال تطبيقات لمؤسسات لا يعرفوا عنها غير تطبيقاتها، فلماذا يرفض بعظهم تطبيق المصرف؟ إضافة للسبب الذي ذكرته (والأسباب المعتادة كسهولة الإستخدام وكمال الخدمات الخ) يبرز التثقيف كسبب رئيس. مجتمعنا يعاني من أنيميا حادة للثقافة المصرفية، ومنها شُح جهود تعليم التطبيقات المصرفية. يغلب على المادة المصرفية خطابان: خطاب المصارف المركز على الترويج وخطاب العملاء-الاعلام المركز على النقد والسؤال. وليس من هذين الخطابين ما يرضي حاجة فهم منتجات وخدمات المصارف.

الجوال هو القناة الخاصة جداً والإجتماعية جدا. وهو الأقدر على تغطية أوسع جغرافيا بأقل تكلفة (عكس الفرع والصراف الآلي الملتصقَين بالمكان)، ويخلو من الإعاقات التقنية الخَلقية الملازمة للهاتف والصراف الآلي والتي تنتظر فتوحات تقنية عديدة.

1أكتوبر

حاشية على فيلم The Margin Call

شاهدت (متأخرا كالعادة) فيلم The Margin Call. الفيلم هو إبراز بسيط وحلو لومضات من أزمة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ المالية. كان للأزمة تبعات كارثية عالميا، كإغلاق مؤسسات مالية وخضوع غيرها لإعانات ووصاية الدولة، إضافة لإخلال مصارف بوظيفتها الضرورية كمقرض لاستهلاك العائلات واستثمار الشركات.

يحكي الفيلم أن موظف إدارة مخاطر في شركة استثمار اكتشف أن مخزون الشركة من البضاعة المالية سيكلف الشركة خسارة تتجاوز أضعاف رأس مالها. اُستدعي مدراء عديدون لدراسة الوضع وحلّه، وتقرر بيع ٨ ترليون دولار من المنتجات السيئة في صباح اليوم الثاني. أُنقذت الشركة وضُحِّي بشركائها والسوق، ثم كُوفئ الموظفون على هذا “الإنجاز”.

سألتقط فكرتين من الفيلم، وأعلّق عليهما:

-١-

إهتم الفيلم بإظهار ضخامة مكافآت موظفي قطاع الإستثمار (هناك وآنذاك!)، ربما لوضوح وإثارة الموضوع عند الجمهور، ولإبراز مآلات ذلك النمط من التحفيز.

معروف أن تلك المكافآت من أسباب انهيار السوق، لأنها حفّزت على اتخاذ مستويات مغالية من المخاطرة. ولهذا سُنّت تشريعات لمكافآت القطاع المالي لتجنب أزمات مشابهة.

تمركزت حوافزٌ عالية في القطاع المالي وتمَركز معها أفضل خريجي الجامعات، لأن القطاع قدّم عوائد استثنائية على الذكاء. ومع استقرار ذلك الوضع لعدة عقود، تمَركز الابتكار وتسارع في القطاع المالي، وتأخر في قطاعات (كالصناعة) عجزت عن جذب وتحفيز تلك العقول.

تكتُّل الذكاء هذا أعطى منتجات في الهندسة المالية عالية التقدم والتعقيد والمخاطرة، في فترة من غياب تشريعات ملائمة. وكانت النتيجة كارثية لهذا التكتل التاريخي النادر لثلاثي الذكاء والحافز وسهولة التشريع.

قد لا تعود تلك الحوافز لمستوياتها السابقة، لتغييرات هيكلية عديدة في البيئة المالية. من هذه التغييرات تشريع عزل وتقييد الأنشطة الاستثمارية، وبالتالي خفض الحاجة للمهارات العالية الملاصقة لهذه المنتجات المعقدة.

يبدو أن محطة تكتل الذكاء والحافز وسهولة التشريع اليوم هي قطاع هندسة البرمجيات. والتجربة القادمة الأكثر تشويقا هي محاولة هذا القطاع حمل وصفته للابتكار لقطاعات هندسية متأخرة، كهندسة السيارات والهندسة الحيوية. ومحاولة ألفابيت (الشركة الأم لجوجل) مع الهندسة الحيوية هي الأكثر اثارة، فإضافة لتأخر كشوفات العلوم الحيوية، تواجه تطبيقاتُها شدة تشريعية هي تحدي إضافي لآلفابيت.

-٢-
إهتم مشهدٌ في الفيلم بطرافة كون موظف دائرة المخاطرة من خريجي علم الصواريخ. وذكر الفيلم أن رئيس ذلك الموظف كان مهندسا معماريا.

للقطاع المالي علاقة مدهشة بالفيزياء. مثلا، الرسوم البيانية للأسهم ومؤشرات التحليل الفني انتفعت بمحاولات تطبيق أساسيات حركة المقذوفات على أسعار الأسهم، وما يرافق ذلك من مبادىء كالإتجاه والسرعة والتسارع..

بل إن فيزيائيين وجدوا مبكرا ما يؤيد تطبيق قوانين الطبيعة على سوق المال، كـ تحليل تذبذب اسعار الاسهم و تسعير المنتجات المالية الأكثر تعقيدا (المشتقات) وتطبيقات مالية عديدة لرياضيات الشبكات المعقدة وفيزياء الجزيئات وسواها..

5يناير

المجتمع الأبوي ومفاهيم مصاحبة

هذه التدوينة من تشجيع حوار جميل تطرّق للبطريركية (الأبوية patriarchy) كتنظيم اجتماعي، وسأحاول هنا تعريف المصطلحِ وأفكارٍ متصلة به، بإيجاز قد اتوسع فيه مستقبلا.

الأبوية (كترجمة سائدة للبطريركية) هي نوع من تنظيمات المجتمع، يكون فيه الذّكَر السلطة الاساسية، ووصيّا على المرأة. وعادة ما يكون الذكرُ الوصيُ الأبَ او الزوجَ او الأخَ او الإبنَ، فتُلحق المرأةُ اجتماعيا وقانونيا به. وهذا التنظيم يمنع وجود امرأة بلا وصاية، ويعامل ذلك كمُنكر.

لغويا، الكلمة الانجليزية منحوتة من “حكم-الأب”، والأب (هنا) ليس أب عائلة، بل أب عِرق بشري (كإبراهيم لبني اسرائيل في السرد التوراتي) كرمز للحضور الذكري الطاغي في المجتمع، فالمصطلح استسقته الإناسة (anthropology) من التوراة في زمن كانت معارفُ طريّةٌ تهتدي بالتوراة كمؤرخٍ صادق وشاهدٍ وحيد لفترة تاريخية، وبقى المصطلح (وغيره) كوليد علاقة حميمة منتهية بين التوراة والعلوم.

التنظيم الأبوي ينزع من المرأة (كقاصر) حريات تصرف (كالتعليم والزواج والعمل والتنقل والتملّك وإدارة المُلك) ويعطيها للوصي الذكر، ويشرّع امتيازات عديدة للذكر. حدود قصور المرأة وسلطة الوصي اختلفت بين المجتمعات والأزمنة، لكنها تجتمع على منع المرأة من مستوى سلطة الرجل، ممثلة في المعرفة والملكية والمنصب.

الأرجح أن الأبوية كانت تنظيما مشتركا في كل المجتمعات والأزمنة، ويغيب الدليل على مجتمع او مرحلة إنسانية أمويّة (متريركية matriarchy)، بمعنى أن سلطة المرأة (كجنس) علت الذكر (كجنس). هناك مجتمعات أمويّة بمعنى إنتساب الأبناء للأم، لكن تلك الأم كانت تحت وصاية ذكر. وهناك لحظات حكمت فيها نساء، لكن في مجتمعات (وبشروط) ذكورية، كما برز دائماً أفراد من جماعات مقهورة تحت شروط جماعات مستبدة.

ومثل تمسّك نسويّات (كنوال السعداوي) بمرحلة أمويّة رغم إقلاع الإناسة القديم عنها، مازال يُقال أن “المرأة في الديانات الوثنية كانت أفضل من الديانات التوحيدية”، وقد يوظَّف هذا الخطأ لتجميل موضة فكرية صاعدة. يأخذ هذا الرأي بصورة المرأة في أساطير وآلهة مجتمعات قديمة، وقد يضيف شهادة الأعمال الفنية (كالمنحوتات). وهو ادعاء أنتجته مدرسة الأساطير والشعائر، التي سادت في بدايات الإناسة وانتمى لها روّاد عديدون. ورغم انسحاب هذا المنهج، مازال طاغيا على الباحثين العرب (كفراس السوّاح).

رأت تلك المدرسة أننا نستطيع فهم تنظيم وتغيّر مجتمع بالتوكّل على شهادة أساطيره وشعائره، لكن ثبت لاحقا قصورُ ذلك في موضوعنا وغيره، فصورة المرأة في الأساطير والآلهة (والأعمال الفنية) قد تناقض واقعَ تشريعات الدولة وممارسةَ المجتمع، وباضطراد ملفت. كما أن العديد من الأساطير والملاحم هي نصوص أدبية، وقَلبُ الواقع كان من أدواتها الجمالية. (وقد نجد تناقضا مشابها بين صورة المرأة في أدبيات مجتمعنا الأبوي وواقعه، ومن تجليّات ذلك صورة المرأة الملكة في مجتمع يحرّم ولاية المرأة.)

لم يتراجع بطش الأبوية لنصف البشر إلا في العصر الحديث، وكانت قبلها الشكل الوحيد للمجتمعات البشرية، بكل أعراقها ومعتقداتها، ومنذ أقدم الأدلة الأثرية، ولم تكن أبدا خصوصية لمجتمع او عقيدة. فإذا نظرنا لمسائل أفرزها ذلك التنظيم (كالولاية والتجهيل والعزل وحتى الوأد) فإننا نجد أمثالها في حضارات أخرى، كالعراق واليونان القديمَين. وخطأ أن نحمّل مجتمعا أو دينا مسؤولية تأسيس (أو عبء بقاء) النظام الأبوي المكلف إنسانيا.

إذا كان في خصوصيتنا خصوصيةٌ فليست حال المرأة، فهذا الحال نمى منسجما مع أقرانه في مجتمعات اخرى، ولم ينفعه انسجامه (آنذاك) ليكون رمز هوية ومواجهة للآخر المتخيَّل في الغرب، فالغرب شاركنا وضع المرأة القديم الذي أبقيناه لخصوصيتنا. وليس من خصوصيتنا (كذلك) أدوات تبريره، فقد شاركْنا الغربَ التبريرات، التي منها قراءة غائية للنص لتفسير وترسيخ مكاسبنا المعاصرة.

4أكتوبر

لن تنقذ اللحوم الصناعية حيوانات الطعام

نعرف أننا نعامل حيوانات الطعام (المواشي، الدواجن، ..) ليس ككائنات حية، بل كألات تنتج أنسجة (عضلات، جلود، ..) لا نستطيع صنعها الآن. ومع آمال الانسان لصنع أنسجة كهذه، تصعد آمال لإنقاذ الحيوانات، بترك استخدامها كمادة للطعام والصناعة. لكني أظن أن بدائل حيوان الطعام لن تنقذه، بل ستؤدي لانقراضه. أي أن هذه الكائنات الحية هي بين مصيرين: بقائها كمادة للطعام والصناعة، أو الإنقراض.

طبعا، كانت هذه الحيوانات بريةً قبل أن يستأنسها البشر. الأجيالُ الأولى البريةُ اختفت تقريبا، وما ينفعُ الناسَ مَكَثَ في الارض، لأن الانسان أذِنَ لتناسلها ورعاه. وعبر أجيال من البشر، تم تفضيل سلالاتِ حيواناتٍ حسب نفعها لبقاء الانسان، وفنَى غيرُها. أي أن تطور حيوانات الطعام حكمته سلطتان:
١) الطبيعة: حيث فَرزت الظروف الطبيعة هذه الحيوانات، ونجى الأقدرُ على البقاء.
٢) الانسان: حيث فَرز الانسان هذه الحيوانات، ونجى الأفضلُ لبقاء الإنسان.

قدراتُ الحيوانِ الأنفعِ لبقاء البشر تُناقضُ قدراتَ الحيوانِ الأنفعِ لبقاءه هو، والسلالات التي اصطافها الإنسان لنفسه هي كائناتٌ إتّكاليةٌ عليه، وعاجزةٌ عن العيش في بيئاتها الطبيعية الأولى. هي مُسوخٌ هشّة، فارتقاء الإنسان احتاج انحدارَ كائناتٍ أخرى (وربما بشرٍ آخرين!)

هذا النقاش يساوي حيوانات الطعام بكل ما يتداوله الإنسان (الأفكار، السلوك، المنتجات، ..)، في ما يشبه داروينية يسيّرها نفعُ الناس، فإذا وصَلَنَا نبات أو سلوك أو كتاب فلأن أجيالا من البشر رعت تكاثره فلم ينقرض. واذا نمت فكرةٌ في مجتمع، فلأن الأغلبية هناك يرعون تكاثرها. إن سلطة الأغلبية تلك واسعة وعميقة، وأضخم من جهودنا للنجاة منها، وما نستهلكه اليوم هو فرَضٌ من الأغلبية. لنأخذ الإنترنت كنموذج. أعطت الإنترنت (كإرشيف جماعي للمعرفة البشرية) ملجأً سهلاً للأفكار، لكن البحث في هذا المخزون منحازٌ لما ترشّحه الأغلبية (مثل أسلوب جوجل المسمى Page Rank). لهذه الأسباب وغيرها، صارت بُنيةُ أدوات البحث (كفهارس للمعرفة البشرية) مقلِقةً حضارياً.

أعودُ لموضوعنا! عَتْقُ الانسان لحيوانات الطعام لن يكون سببُ انقراضها الوحيد. صُنعُ أنسجة بديلة للحيوان سيكون نتاجَ علومٍ مثل هندسة الأنسجة أو التصنيع الحيوي، وأولُ أهداف هذه العلوم قد يكون تعويضَ أعضاءٍ بشريةٍ مختلّةٍ وظيفيّا، فيطولُ عمرُ الانسان، ويزيدُ سكانُ العالم وإخلاءُ بيئة الكائنات الأخرى لسكن البشر. إذا نبذ الإنسان الحيوانات كمادة للطعام والصناعة، فلن يرحب بها كمنافس على موارد الأرض.

أخيرا، دعونا نراجع دوافع رفض تربية حيوانات الطعام:

١) أخلاقية (أو عقائدية): ضد مبدأ أو طريقة ذبح الحيوان، أو ظروف رعايته، أو حتى أكله.
٢) صحية: ضد مبدأ تناول اللحوم، أو مشككة في سلامة طرق تغذية الحيوانات أو معالجة لحومها ونقلها وتخزينها على صحة الإنسان.
٣) بيئية: قلقة من التكلفة البيئية لتربية الحيوانات للطعام، فنحن نستهلك سنويا من الحيوانات البرية نحو ١٠ أضعاف عدد البشر.

إن فُرص تحقيق تلك الشروط تنخفض مع ارتفاع عدد البشر أو مستواهم الاقتصادي، ويبدو أن ارتفاع جودة حياتنا (صحيا واقتصاديا) يخفض قسراً أخلاقية وصحيّة وبيئيّة طعامنا، إلا إذا أبدلنا (طوعاً أو كُرهاً) الحيوانَ بأنسجة مُصنّعة. قد تحقق البدائلُ الآمانيَ الثلاث، إلا نجاة حيوان الطعام.

كنظامنا الغذائي الحالي، سيكون لبدائل اللحوم آثار ثقافية واجتماعية عميقة. مثلا، ماذا سيكون تعريفنا للذة الطعام؟ وماهي المظاهر الطبقية للذة، إذا كانت النُدرةُ عنصرا في لذة طبقة اجتماعية؟

23سبتمبر

المعلومات المهنية في الشبكات الاجتماعية

إحدى الظواهر السيئة عندنا هي الكتابة في الشبكات الاجتماعية عن خصوصيات المهنة، والحالات التي لاحظتها في تويتر تنتمي لواحد أو أكثر من الأنواع التالية:

١) موظف يعرض خبرته في مجاله: هذا جيد، إذا تجنب خصوصيات مؤسسته.
٢) موظف يعرض خصوصيات مهنته لجذب المتابعبن، وأحيانا يفعل ذلك بعد ترك المؤسسة، وكأن التزامه القانوني-الاخلاقي ينتهي مع تركه المؤسسة. وهناك من جنى مكاسب شعبية من التجارة بخصوصيات مهنة سابقة.
٣) موظف يعرض خصوصيات مهنته انتقاماً من مؤسسته أو جهات مرتبطة بها.

وفي كل تلك الأحوال، تكون التفاصيل المعروضة خليط من الصحيح والخطأ، حسب موقع الموظف في المؤسسة وموقفه من الموضوع.

علينا الحد من هذا السلوك الخاطىء. وأقترح على المؤسسات محاسبة هؤلاء قانونيا، لرفع التزام الأفراد وخفض فوضى الفضاء العام.

22سبتمبر

مطالعة فيلم: جوبز

فيلم “جوبز” (عن مؤسس أبل) سيء، لأسباب سأوضحها.

الفيلم لا يعرض قصة ستيف جوبز، بل قصته مع أبل، فالفيلم يبدأ قبل تأسيس أبل بقليل وينتهي بعد عودة جوبز لأبل بقليل، ويتجنب حياة جوبز خارج أبل (كالجانب الإجتماعي وأعماله الاخرى). قصة الفيلم هي ما نعرف عن جوبز من الإعلام، بلا إضافة. أشعر أن القصة قيَّدَها هاجس السرية عند عائلة جوبز، فصار الفيلم أداءاً درامياً لقليل منتشر عند الجمهور، أو أن الفيلم أراد قبولا تجاريا بقَصْرِ القصة للجانب الممتع المفهوم عند المشاهدين.

معروفٌ أن جوبز كان متوحشا مع الناس في داخل أبل وخارجها (حتى مع عشاق أبل)، ولم تكن من عادته إظهار الإنسانية. لم يجد الفيلمُ الإنسانَ في سلوك جوبز العلني، فبحث عن الانسان فيما يفعل جوبز في السِرّ. جوبز المتوحش، الذي نبذ ابنته وترك شريكه ستيف وزنياك، بكى وحيدا بعد هذين الموقفين! هذا كل ما وجده الفيلم من إنسانية جوبز، بعد ساعتين من التنقيب.

شخصية جوبز في الفيلم تظهِر جفافه المذكور بوضوح مستمر، لكنها لا تُضخِّم تلك الصفة كما فعلت لسمات أخرى في جوبز ومن حوله. مثلا، حركة جوبز ضَخّمها أداء الممثل لدرجة كرتونية. وشخصية وزنياك شُوّهت بالكامل، وكأنه ساذج طيب محظوظ بموهبة تقنية. حتى جوناثان إيڤ ظهر أمام جوبز بشخصية كرتونية، وكأنه يتلو نصّاً تدرّب عليه لتسجيل رسمي (scripted and coached speech). يبدو أن فريق الفيلم لم يجد مادة مصوَّرة لإيڤ سوى تسجيلات أبل وفيلم Objectified، ومن الطريف تقديم شخصيته العفوية هكذا. طبعاً إيڤ يظهر كدُمية طيبة أخرى أمام جوبز، وكأن إيڤ تلميذٌ واعِدٌ وليس رئيس التصميم الصناعي في أغلى شركة تقنية في التاريخ والحاصل على ثاني أعلى وسام بريطاني.

وزنياك وإيڤ ليسا الطيبان الوحيدان عند جوبز، فكل من حوله كذلك، وكأن الله سخّر لجوبز ما يحتاج من الدُمى الطيبة المحدودة المهارات. ولا يَظهَر في الفيلم أن لجوبز قرينٌ في أعماله أو حياته الشخصية. فهو وحش يستخدم طيبين، ومُلهَمٌ يقود بُسطاء لجنة لا يرونها، ولا تجب عليهم رؤيتُها، فهم مُكَلّفون بما يستطيعون فقط، أي الطاعة! وفي عدة مناسبات، ينبِذ جوبز شخصاً ممن حوله بسهولةِ رميِ علكةٍ انتهت نكهتها. إذا سألنا “هل من الأفضل أن يُهاب القائد أو يُحب؟”، فإن الفيلم يجيب أن جوبز اختار هيبة القائد، وربما كان جوبز كذلك. (طبعا ذلك السؤال الدارج فيه مغالطة التقسيم الخاطىء.)

أخيراً، وفي مبالغة درامية أخرى لإمتاع المشاهد، يَظهرُ البطل عارفاً لهدفه وكيف يصله من أول خطوة، ويتّجه لهدفه برشاقة وثقة. هذه الصورة تكررها هوليود في أفلام الحركة، فالبطل يهرب من مُلاحقيه برشاقةِ وثقةِ العارِف، ولا يُظهِرُ جُهداً لاستكشاف المكان، بينما سياق الفيلم يقول أن البطل غريبٌ على أزقّة تلك الحارة المزدحمة والضيقة. يبدو أننا (كبشر) نستلذ صورة البطل المُلهَم المُسدَّد.

نعلمُ أن الواقع مختلف، فذلك البطل الهارب سيستكشف الحارةَ الغريبةَ كما يفعل فأرٌ في متاهةٍ بمختبر، وسيدخل خطأً طُرُقاً مسدودة ويغيّر مساره مراراً، وهذا ما نفعله نحن البشر (ومِنّا القيادون) سعياً لأهدافنا في متاهة الحياة. بل حالنا أشد صعوبة من متاهة بمختبر، لأن متاهاتنا تتغير دروبها دوما، وما اعتبَره قياديٌ درباً خاطئاً (أو العكس) قد يصبح سليما لتغير الإقتصاد أو التقنية أو المنافسة الخ. جوبز لم يكن يرى (أبداً) أبل اليوم، بل كان (مثلنا) يتصرف كما يسميه البرمجيون بالإستكشاف (Heuristics)، أي أن نقيّم الخيارات التي يفرضها الواقع، ثم نتحرك حسب الخيار الأفضل قيمة، ونكرر اللعب. النتيجة ستكون حصيلة قرارات منفصلة، وليست حصيلة خطة قديمة (للمنتجات والأسعار الخ) ينفذها القيادي لسنوات.

ما يميز جوبز وغيرَه من المؤسسين الناجحين لشركات تقنية عملاقة (مثل بيل جيتس ولاري إلْسون) هو أن هؤلاء تعلموا من أخطائهم بسرعة السوق. فيلم جوبز يهمل تجربة تعلم جوبز، ويتجنب نقده، ربما بسبب شروط عائلة جوبز، أو لأن الجمهور يتوقع عرضاً إيجابياً لجوبز الآن. إن عمق تجربة الخطأ والتعلم واضحة عند جوبز، فأبل التي تركها بعد عزله كانت ستيف جوبز، وأبل التي تركها بعد موته هي بيكسار.

أن محتوى فيلم جوبز أقل من أعمال قديمة مشابهة، كـ Pirates of the Silicon Valley (عن قصة شركتي الحواسب المنزلية الامريكيتين ميكروسوفت وأبل) و Micro Men (عن قصة شركة الحاسب المنزلي البريطانية سنكلير)، فهذان العملان مثلا، ورغم قدمهما، أفضل من فيلم جوبز.

21سبتمبر

ترجمة: لبنان، الحشيش والحرب

هذه ترجمة لمقاطع من كتاب مارتن بُوث “القِنَّب في التاريخ” عن تاريخ نبتة الحشيش:

كان لبنان المزوِّد الأخصب للحشيش بالمنطقة في الستينات والثمانينات، رغم الحظر الرسمي للحشيش. كان الحشيش اللبناني يُميَّز بتعبئته في أكياس بيضاء من القطن او الكَتّان، وتُختم الأكياس بعلامات تجارية بسيطة كالأسد أو النجمة والهلال أو شجرة الأرْز، وعلامة الأرْز مثّلت أفضل حشيش عند الغرب وعرفوه بالذهب اللبناني.

منذ بداية الخمسينات، كان لبنان وسوريا ينتجان معاً ٣٠٠ طن حشيش سنويا، بينما كان المستهلكون من السكان أقل من ١٪ في ١٩٧٦. كما كان شائعا في المجتمعات الاسلامية، لم يدخن الحشيش إلا الرجال، وكانوا يدخنون بالنارجيلة وفي السر.

منطقة الزراعة الرئيسة كانت وادي البقاع، حيث أقامت عشائر الدنادشة [الشيعية] مجتمعا زراعيا. حدثت محاولات في منتصف الستينات لجعل الدنادشة يزرعون محاصيل بديلة كعبّاد الشمس، ولم يتحمس المزارعون. حتى مع دعم الأسعار، فضلوا القِنَّب الذي استهلكت زراعته جهدا ومالاً أقل. استمرت الزراعة، أحيانا بين حقول نبات عبّاد الشمس الطويل الذي ستر المحصول الحقيقي عن الجميع إلا المراقب من الجو.

تجارة الحشيش محلياً و (الأهم من ذلك) للتصدير أكسبت عدة فصائل دينية وسياسية أموال كثيرة، في بلد كان مقسَّما إجتماعيا وعرقيا. عندما اندلعت الحرب الاهلية بين المسلمين والمسيحين في ١٩٧٥، كان عند الجماعات المقاتلة عتاد حربي كبير. وبعدما سيطرت الحرب وانهار الاقتصاد، صار الحشيش مصدر الدخل الحقيقي الوحيد. زراعة الحشيش صارت عمليّاً البند الوحيد في الناتج المحلي الاجمالي، وموّلت تجارة السلاح والقتال.

كان التصدير اساسيا، وجزءٌ مُعتَبرٌ منه ذهب لمصر. والكثير هُرّب للغرب، خاصة أوروبا. مزارعوا القِنَّب الشيعة (وهم من المتعصبين للاسلام) كانوا أيضا يبيعون الحشيش لإسرائيل، العدو المقاتل لرفيقهم حزب الله، الجماعة العربية المسلحة التي حاربت سعياً لدولة فلسطينية عربية.

وكشف مقال في صحفية التايمز في ١٩٩٦ خطة للموساد الإسرائيلي لشراء حشيش لبناني وتوزيعه في مصر بعد حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧. رُمِزَ للعملية بـ لاهاڤ (أي الشفرة)، وباعت حشيشاً لتجار مخدرات مصريين قرب قواعد للمجندين. كان الغرض إضعاف الجيش المصري. واستمرت عملية الشفرة طوال الحرب الإهلية اللبنانية وبعد انتهائها (في ١٩٧٩) بفترة، وبالتالي كانت اسرائيل مسئولة عن تمويل الجماعات المقاتلة قبل بدء الحرب الاهلية، وإطالة تلك الحرب، و (بشكل غير مباشر) تمويل القتال جزئيا، و (في نفس الوقت) العمل في تجارة المخدرات الدولية، مخالِفةً الإتفاقية الوحيدة للمخدرات من الأمم المتحدة. ولأن اسرائيل إختارت إهمال عدة قرارات من الامم المتحدة بالنسبة لحقوق العرب الفلسطينين، وتجاهلت اتهامها باعتداءات وحشية ضدهم، فإن إهمال الاتفاقية الوحيدة لم يكن أمرا عظيما.

في ١٩٧٠، مثّلت أفغانستان ٣٠٪ من إنتاج الحشيش العالمي، ولبنان ٢٥٪، وباكستان ٢٠٪. وبعد عشر سنوات، أظهرت الأرقام أن لبنان أعطى ٣٥٪، يتبعه باكستان (٢٥٪)، ثم المغرب (٢٠٪).

© Copyright 2013, All Rights Reserved