“الجنس والمجتمع في الإسلام. ضبطُ الإنجاب قبل القرن التاسع عشر” [١] هو كتاب يناقش فيه باسم مُسلَّم أدبيات منع الإنجاب عند المسلمين من الفقهاء والأطباء والصيادلة والأدباء، ويُظهر الكتابُ سمات موقف المجتمع المسلم تاريخيا وفرادته قبل القرن ١٩م. في هذه التدوينة، أوجزتُ محتوى الكتاب (أو ما رأيت إبرازه) وذيّلته. وبذا، أقاسمُ مُسلّٓمٓ التدونية؛ له المَتن ولِي الهامش!
مختصر الكتاب
لاحظَ إحصائيو سكانٍ غربيون صعودا قصيرا لأعداد سكانية غربية بعد الثورة الصناعية، وفسروا ذلك بـ “نظرية التحول” من مواليد ووفياتٍ مرتفعة قبل الثورة الصناعية، إلى مواليد مرتفعة (أو تقليدية) ووفيات منخفضة، ثم إلى مواليد ووفيات منخفضة منذ القرن ١٩. ولما نظروا لـ “الإنفجار السكاني” في العالم الإسلامي، أسقطوا النظرية عليه ووضعوه في مرحلة مواليد تقليدية او زراعية أو قبل-حديثة. ولم يشاؤوا الإلتفات لتاريخية انتشار ضبط الإنجاب عند المسلمين لأن أولئك المختصين فهموا الضبطَ رديفا للمجتمعات الحداثية. ولم يلحظوا أن تحوّل العالم الإسلامي ربما عاكس الغربي، إذ مارس المسلمون ضبط الإنجاب حين غيّبه الغرب، وغيّبوا الضبط حديثاً لمّا مارسه الغرب.
إجماع الفقهاء على إباحة منع الحمل (ممثلا بالعزل) لم يخالفه إلا ابن حزم الذي قال بنسخ رواية جُدامة عن النبي (“ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ”) للأحاديث المبيحة. وقد عدّد الفقهاء عِلَلَ منع الحمل في مجتمعاتهم، كحماية جمال الزوجة وتجنيبها خطر الولادة وحفظ السرايا من العتق.
وتكررت عِلّة دفع حرج عناء الكسب، فأيدها الغزالي وقال “قِلّة الحرَجِ مُعين على الدِّين”، وذكر الشوكاني أن من دوافع مجتمعه كان تجنب كثرة الأولاد. وهذا الإفصاح عن البواعث الإقتصادية مُلفت، إذ لم يظهر خارجٓ الإسلام مثلُه قبل أواخر القرن ١٨، في حملتَي جيرمي بينثام (لخفض الفقر الإنجليزي) وميل–بليس [٢] (لمنع الحمل) [٣]. وضمّت عِلل الفقهاءِ الخوفَ من استعباد الأبناء، حتى أن الحنابلة أوجبوا منع الإنجاب في دار الحرب (ربما للمواجهات الإسلامية البيزنطية بشمال سوريا)، بل إن فقهاء مسلمين لاحقين أباحوه مطلقا في “سوء الزمان” أو “فساد الزمان”. [٤]
إستقرار المسلمين على إباحة منع الحمل، مقابل اتفاق اليهود والمسيحيين على تحريمه، جعل إباحته كليشه ثقافي. [٥] وقد أقام عمومُ الفقهاء حُكمَ الإباحة على قبول الزوجة الحرة بالعزل، إذ لها حَقَّي الإنجاب والمتعة. ولو أزلنا نقاش حق المرأة لما بانٓ العزلُ في متون الفقه.
ورأى الشافعية وحدهم جواز العزل بلا إذن الزوجة الحرة، بينما أكد الحنابلة على حَقّيها واشترطوا إذنها، ورفعوا شرط الإذن في دار الحرب. والأحناف الأوائل أشترطوا إذن الزوجة، ثم جاء بعدهم من أجاز منع الإنجاب بدون إذنها لسوء الزمان، وبذا أُعطِي سوءُ الزمان أسبقيةً على حق المرأة. والمالكية اشترطوا إذن الزوجة، وأجازوا لها طلب المال مقابل إذنها. واشترط الاثناعشرية إذن المرأة كذلك، وأجازوا تثبيت الإذن في عقد الزواج، وقضوا بدفع المال للزوجة عند العزل خلافا للعقد.
إعتمدَ المسلمون العلومَ لفهم النصوص الشرعية المتصلة بأطوار الجنين ومساهمةِ الوالدَين في تكوينه. ورأسَ تلك العلوم أبقراط وجالينوس (في الطب) القائلَين بوجود ماءٍ للمرأة يساوي ماء الرجل في تكوين الجنين، وأرسطو (في الفلسفة الطبيعية) الذي قال ان ماء الرجل يصنع الجنين من دم الطمث. وفي زمن جالينوس أُكتشف المِبيض وتأيّد ماءُ المرأة بقرينة جهلَها أبقراط وأرسطو [٦]، وبعد جالينوس صار “الأطباء” و”الفلاسفة الطبيعيون” خصمين يتصدّر خلافاتَهما موضوعُ الحمل. ولما واجه الفكرُ الديني الاسلامي آراء العلم في الحمل، لم يواجه جسدا متّحدا، إذ قدّم الطبُ عوناً كبيراً للأفكار الإسلامية عن الحمل، وأعطَى أبقراطُ الفقهاءَ السند النظري الأقصى لإباحة منع الحمل. [٧]
رَمَّ ابنُ سينا بيولوجيا أرسطو وأحصنَها على الجالونيسية، ففضّل فلاسفة المسلمين والغرب شروحه بدل كتب أرسطو. وضلّت الكتابات الشرعية الإسلامية الأقسى مخالَفةً للأرسطية، لاتفاق أبقراط والقرآن على تساوي مساهمة الوالدَين واتفاق جالينوس والحديث على أطوار الجنين، واستورط الأرسطيون (كأبي بكر الرازي) في تعقُّل الشريعة، بينما جنى ابن القيّم الجوزية (ولم يكن أرسطيّا) كُلَّ النفع من اتفاق الطب والشريعة [٨]، ورحّب بفرصة تأييد الوحي بمعارف دنيوية.
تصدّرت نظريةُ تٓساوي مساهمة الوالدَين حُججَ الغزالي لإباحة منع الحمل، ويصعب فهمُ إجماع الفقهاء على الإباحة بدون هذه النظرية، إذ لم يجعل الفقهُ لماءِ الرجل أو المرأة حُرمةً وحده، فهو “لا شيء” عند الغزالي و “غير يقيني” عند القرطبي قبل اتحاد المائين، والأقرب أن الغزالي والقرطبي إطّلعا على رأي الأرسطيين (كابن سينا) الذي يُعلي ماء الرجل ويراه حاملا لروح الإنسان.
إباحة الفقهاء لمنع الحمل فسَحت للأطباء والاُدباء نقاشه، فجمع الرازي في الحاوي ١٧٦ وسيلة منع إنجاب للجنسين، مثّلت ٨٠٪ مما سجّلته المدوَّنات العربية بعده. وفي حين خَصَّ الفقهاء العزلَ بنقاشهم، لم يعتني به الأطباء، ربما لأن الأسئلة المحيطة به شرعيةٌ وليست طبية. واختص الأطباء بالموجِبات الطبية لمنع الحمل، وحدُّوها بصغر المرأة او علّة في رحمها، وأوضح أبو الحسن [سعيد بن هِبة الله] الطبيب أن ما عناه أطباء العهد الوسيط بـ “الصغيرة” هي من تحت ١٥ عاما [٩].
وحتى بدايات القرن ٢٠ (قبل ابتكار حبوب منع الحمل)، ركّز الطرحُ الطبي على وسائل المرأة [١٠]، وهي وسائل موضعية (تعيق الإخصاب فيزيائيا او كيميائيا) إنحدرت من الطب العربي الذي قدّم المخزونَ الأكبر لوسائل المرأة. بل إن التركيز على هذه الوسائل هو سمة مميِّزة للطب العربي.
وقدّم الطبيب العربي اليهودي هِبة الله بن جُمَيع (طبيب بلاط صلاح الدين الأيوبي) منع الإنجاب في كتابه إرشاد المصالح، رغم تحريم اليهودية لـ “تدمير البذور”، مما يُظهِر أن منع الإنجاب كان رُكنا أساسا لمُتون الطب العربية مهما كانت قناعات المؤلف، فالموضوع كان مطلباً لمهنةِ الأطباء وجمهورِهم المسلم. ويبيّن ابن ميمون (الطبيب اليهودي لإبن صلاح الدين) الأمر أكثر، فقد قال بالقبح المطلق لتدمير البذور عندما وثّق الشرع اليهودي، لكنه نصح حاكمَه المسلم بالعزل. وبينما خلت الترجمة العبرية لقانون ابن سينا من شروحه لمنع الإنجاب، أبقتها الترجمة المسيحية اللاتينية، لكن متعلمي أوروبا (وأغلبهم من رجال الكنيسة) تجنبوا نقل حديثه إلى مؤلفاتهم عن كتاب القانون، وهكذا فعل ألبيرت الكبير. [١١]
لكن رسالة ابن البيطار في الأدوية المفردة تظهِر انحدارا لاحقا في عقلانية الطب العربي، فأغلب عقاقير منع الإنجاب من المأكولات، ولم يعرف الطب عقارا فاعلا كهذا قبل حبوب منع الحمل في القرن ٢٠. وتذْكِرة داود الأنطاكي تشهد أيضا على الإنحدار، إذ قدَّمت طلاسم سحرية لمنع الإنجاب، مما أُعتبر علامة لسقوط الطب العربي.
وأظهرت مؤلفات الباه العربية (كالروض العاطر) إسهابا في نقاش منع الحمل لم تألفه مثيلاتها الهندية والصينية، بل إن الكِتاب العربي الواحد ذَكرَ عن منع الإنجاب ما لم تذكره أدبيات الشبق الهندية والصينية مجتمعة.
ولا تعود وصفات كتب الباه لمؤلفات الطب، بل ترجع للتراث الشعبي. وخلافا لكتب الطب، تُغلِّب كتبُ الباه وصفاتَ الرجل على وصفات المرأة (كما يبرُز في عودة الشيخ إلى صباه)، وبِذا تُناقِض كتبَ الأدوية التي تكاد تهمل وسائل الرجل، ربما لأن مؤلفات الباه كتبها الرجال للرجال، بينما النساء يرجعن للصيادلة.
كما يتكرر ذِكرٌ عفويُ لمنع الإنجاب في رسائل الأدب، ورأى الجاحظ أن منع الإنجاب سِمة للإنسان تميزه عن باقي الحيوان. وتصطفُّ الرسائل مع كتب الباه في تفضيل وسائل الرجل، وتفضيلُ الآداب الشعبية لوسائل الرجل (عكس كتب الطب والأدوية) هو إفصاح عن رغبتها في حُكْم منع الإنجاب لرجال مجتمعها.
وتُوافِق كتبُ الباه كتبَ الأدوية في الأخذ بعقاقير التراث الشعبي التي لم تعرضها كتب الطب، ولم تكن هذه العقاقير جديدة، لكن الأطباء انتقوا ما وافق تجربتهم من كتب الأدوية. وهكذا حالُ وصفات السحر، فالحاوي ذكرَ وسيلةٓ سحر واحدة ونعتها بالبدعة، بينما خلى كتابُه المنصوري من السحريّات. وكمُتون الطب، خلت كتب الباه (للتيفاشي والنفزاوي وابن الجوزي والنويري) من وصفات السحر.
وخلت كتب الفقه من الوسائل السحرية والعقيمة، وتظهر قيمة تاريخية لهذه الكتب عند مقارنتها برديفاتها الغربية المكتوبة قبل القرن ١٨، والتي سادتها وصفات الأكل والسحر.
وإباحة منع الإنجاب لا تثبت ممارسته، بل تثبتها آثار انتشار الممارسة، كنقاش الفقهاء لإنكار ممارس العزل لأبوّته، ونقاش حق المرأة، والإهتمام البالغ بوسائل الرجل في الأدبيات الشائعة ككتب الفقه والباه.
وضبط الإنجاب قد يفسِّر انحدار أعداد سكان مصر والشام الذي استمر للقرن ١٩ وأرجعٓه باحثون للأوبئة والفيضانات والحروب. وتٓظهر فرادة مصر بملاحظة التعافي السريع لأعداد سكان أوروبا بعد الطاعون وتضاعُف سكان الصين ٦ مرات في ٤٠٠ عام بعده، بينما تأخرت مصر. ربما تواطأ ارتفاع وفيات المواليد مع انخفاض الخصوبة، فموجات الطاعون (التي كانت أشد فتكا وأكثر تكرارا مما أصاب أوروبا) [١٢] أضافت لمآسي زمنٍ نعته أهله بالسوء والفساد، مما جعل الفقهاء يبيحون العزل بلا شرط، كما في كلام ابن الهمام والطهطاوي وابن نُجيم وابن عبدين.
حاشية المدوِّن
١)
– Musallam, Basim. Sex and Society in Islam: Birth Control before the Nineteenth Century. Cambridge University Press, 1983.
٢) هما الفيلسوف جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) والمصلح الإجتماعي فرانسيس بليس (١٧٧١-١٨٥٤)، والإثنان ناصرا المالتوسيه المُحدَثة، وهي حركة بدأها بليس وأخذت بمخاوف الإقتصادي والقس الإنجليزي توماس مالتوس (١٧٦٦-١٨٣٤) من تكاثر السكان، لكنها خالفته بالدعوة لموانع الحمل بدل تأخير الزواج.
ورأى مالتوس أن أعداد البشر تجاوزت قدرة إنتاج الأرض الغذائية، وإن لم نخفض التكاثر بتأخير الزواج فسنبقى في دورة حتمية من زيادة السكان ثم خفضه بـ “البؤس والرذيلة” (كالأمراض والهجرات والحروب). ومقولة ذُروةِ الموارد هذه (والتي ألهمت ذُروةَ النفط) هي من النظريات التي لا يُشك في علميتها، لكُثر ما دُحضت!
واحتُجز ميل ذو السابعة عشر بتهمة الترويج لدعوة بليس لموانع الحمل. ودعت مطويات بليس النساءَ للعزل بقطعة إسفنج، وربما جاءت الوسيلة من فرنسا حيث انتشرت لتحديد النسل. وذكر العرب هذه الوسيلة التي تطورت لاحقا لتصبح اللولب (IUD)، ويلاحظ مُسَلَّم أن كل وسائل منع الحمل التي عرفها الغرب حتى القرن ١٩ كانت عند العرب.
– Malthus, T. R. An Essay on the Principle of Population. Dent, 1967.
– Cook, H. The long sexual revolution: English women, sex, and contraception; 1800 – 1975. Oxford: Oxford University Press, 2007.
– “The Place of John Stuart Mill and of Robert Owen in the History of English Neo-Malthusianism”, The Quarterly Journal of Economics, Volume 42 (August, 1928), Pages 627–640.
٣) رأي مُسَلَّم هذا يعارض مباشرة قول نورمان هايمز “لا أذكر رؤية تبرير اقتصادي [لمنع الحمل] قبل دفاع جيرمي بينثام (١٧٩٧) عن استعمال الإسفنجة لخفض نسبة فقراء الإنجليز، و حملة ميل-بليس (١٨٢٣-١٨٢٥)”.
ذكَرَ هايمز هذا في كتابه “التاريخ الطبي لمنع الحمل“، عند الاشادة بذكر الطبيب العربي علي بن عباس للدواعي الطبية لموانع الحمل في “الكتاب الملكي”، فنورمان رأى نُدرةَ نقاش الدواعي في التاريخ المبكر لموانع الحمل وغيابَ الداعي الاقتصادي. وامتدح نورمان دعوة علي بن عباس لإبقاء وصف موانع الحمل بين الأطباء وتحت إشرافهم لضبط العواقب الطبية.
ورأى هايمز غياب الدوافع الإجتماعية أيضا قبل بينثام وميل-بليس، وهذا موطن خلاف ثاني مع مُسلَّم الذي قال بأسبقية الحنابلة، عندما أوجبوا منع الإنجاب في دار الحرب.
وسيماء بحث مُسلّٓم تُبطِن خلافا آخر في شأن الدوافع، فمُسلَّم أبرز دواعي الفقهاء القانونية والإجتماعية، وهي غابت عن كتاب هايمز المحدود بالتاريخ الطبي. وقد رأى مُسلَّم تقاسم مهامٍ بين فقهاء وأطباء مجتمع الإسلام، فالفقهاء اشتغلوا في الدواعي القانونية لموانع الحمل، بينما اشتغل الأطباء بالدواعي الطبية في الحدود القانونية التي خطّها الفقهاء.
٤) وفوق ما تظهره النصوص من دوافع الحاجة لطُرق تنظيم نسل، يبدو أن بروز موانع الإنجاب عند المسلمين دفعَته حماية الإسلام لأنفس الأجنة والمواليد، مقارنة بأحوال المجتمعات القديمة. ففي المجتمعات التي أطلقت التصرف في الأجنة (بإطلاق الإجهاض) والمواليد (بالقتل او النبذ)، لم يجد الناس حاجة لغير هذه الطرق الحاسمة.
٥) في عمله المهم عن تاريخ تشكّل صورة الإسلام في الغرب، قدّم نورمان دانييل منع الحمل ضمن القيم الجوهرية المخالِفة في الهوية المشرقية-الإسلامية كما رآها الغرب، وبذا يفهم مُسلَّم أن دانييل يرى ضِمنا أن رؤية الغرب تلك ساهمت في تعريف الغرب لهويته النِدّ، ليصير رفضُ موانع الحمل ركنا فيها.
– Daniel, Norman. Islam and the West: the Making of an Image. The University Press, 1962.
٦) أسس الجالينوسيون من اكتشاف المبايض التصورَ المعاصر بأن هيكل الجهاز التناسلي متشابه عند الجنسين، لكن الأرسطيين لم يجدوا في اكتشاف المبيَضين ما يثبت وظيفتهما التناسلية، فالأرسطي ابن رُشد (مثلا) دافع بحجة داروينية قائلا “وأما الأنثيان اللتان يزعم جالينوس أنهما توجدان للمرأة، فيشبه ألا يكون لهما تأثير في الولادة. وليس ذلك بغريب: فإن الثدي في النساء لمكان الولادة، وليس لها في الرجال هذه المنفعة”.
وما حسمَ مذهبٌ الجدلَ لنفسه، “فليسَ عندَهم عليهِ دليلٌ إلا الأخلقَ والأولى والقياس” (بلفظ ابن القيّم). وظلت نظريات الإنجاب بالمئات، حتى حدّها اكتشاف المجهر والحيوان المنوي في القرن ١٧، ثم حسمَ الأمرَ فهمُ صلة الحيوان المنوي بالحمل في القرن ١٩، كما لخّص هايمز.
– إبن رُشد. الكُليّاتُ في الطب.
– إبن القيّم. تُحفة المودود بأحكام المولود.
٧) عن مساهمة الوالدَين في الإنجاب، قال بعض اليونانيين بمذهب المائين (أي أن للأنثى ماء كالذكر)، وقال غيرهم بماء واحد (من الذكَر وحده). وأخذ الطبيب أبوقراط بالمائين، ثم جاء الفيلسوف أرسطو وناصر مذهب الماء الواحد، ثم أكتُشفت المبايض بعد أرسطو وجاء الطبيب جالينوس مؤيدا للمائين ومستدلا بالمبايض.
وتفسيرا للصفات الوراثية، ساد التفكيرَ نظريةٌ عامة منذ قدماء اليونان حتى بعد داروين، وسمى داروين النظريةَ “شمولية التخلق” (pangenesis) ووافقها، وتجتمع نُسخ النظرية على أن ماء الإنجاب يجتمع من أجزاء الجسد ليحمل صفاتها للجنين. ونسخة أبوقراط من النظرية تقول أن ماء الذكر والأنثى تُنتَزع أجزاءه من أعضاء الجسد، ولذا تصبح مادة الجنين مجموعا لتلك الأعضاء وشبيها لها.
لكن أرسطو قال أن ماء الرجل لا يُنتزع من الأعضاء، بل هو فائض دم ناضج قبل دخوله الأعضاء. وظن الطب القديم أن الدم هو غذاء ناضج ذو طبيعة واحدة قادرة على الإختلاط بكل جزء في الجسد والتشكل بهيئته، و بتعبير ابن سينا “أن الغذاء يصير دما أولا ومادة مشتركة، ثم تكتسبُ الإختلافَ بعد ذلك”، وهكذا كان فهم الأرسطيين للمني الذي رأوه من فائض الدم الناضج وشبيها له بكونه “مادة مشتركة، ثم تكتسب الإختلاف بعد ذلك”، مثل فهمنا المعاصر للخلايا الجذعية في الأجنّة.
– إبن سينا. الشفاء، ج٣.
٨) ناصرَ ابنُ القيّم بيولوجيا أبقراط ضد أرسطو، اذ قال بالمائين ونسخة أبقراط من شمولية التخلق، لكن هذا الموقف الجوهري الموفِّق بين الطب والشرع جاء مشوبا بنقائضه.
خالف ابن القيّم منهجه ورأيه عند تفسير كون “الولد للأب حكماً ونسباً” بالقول “والأصل هو الذكَر فمنه البدر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها”، إذ خرج عن عادة عرض آراء علوم عصره والترجيح بينها، وقال بما يخالف أبقراط والنصوص الموافِقة. وتصوير الجنين كبذرة الذكَر في أرض الأنثى يُغفل أن نبتة المولود من بذرتين كما بيّن ابن القيّم من الشرع والطب. والتصوير يعارض حتى مدرسة أرسطو المقابلِة، فهي لا تقول أن الأنثى وعاء لبذرة الذكر او مادة الولد من الأب، بل ترى أن مادة الولد من المرأة وحدها ومنيّ الرجل يشكّل تلك المادة “كما يصنع النجار الكرسيَّ من الخشب”. إن مثال البذرة والأرض يعارض المعرفة الطبية والفلسفية في زمن ابن القيّم، ويناقض موقف ابن القيّم الذي جاهد له.
والملفت أن هذه النسخة الحادة من مذهب الماء الواحد تطابق تعبير اليوناني التراجيدي إسخيلوس، وهو ممن قالوا بالماء الواحد قبل أرسطو، كما في مقطع أوريستيا المعروف:
The woman you call the mother of the child
is not the parent, just a nurse to the seed,
the new-sown seed that grows and swells inside her.
The man is the source of life-the one who mounts.
يبدو أن مثل هذه الفكرة القديمة كان منتشرا زمانا ومكانا، ويُلتَقط لحاجة ربما عارضت مذهب قائلها.
وأخذ ابن القيّم بنسخة أبقراط من شمولية التخلّق لتفسير الصفات الوراثية، وفي هذا نُصرةٌ أخرى لأبقراط ومدرسته ضد أرسطو ومدرستِه. بل ونقَل شمولية التخلّق لمقاربةٍ ممتعة لخلق الإنسان الأول، مبينا لغويا أن كلمة سُلالة (في “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ” و“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ”) تعني شمولية التخلّق في الحالين، باستلال مادة المني من أجزاء جسد الإنسان واستلال الطين من أجزاء جسد الأرض.
وبذا أخذ ابنُ القيّم شمولية التخلّق لأبعد مما أراده منشؤوها، إذ ضم خلق الإنسان الأول ولم يكن هذا هاجسُ من أرادوها تفسيرا لنقل الصفات للأبناء، فتبنى النظرية وقدمها نسقاً دينيا شموليا للخلق بالقول “ولذلك سماه الله سلالة والسلالة فعالة من السَّل وهو ما يُسَلّ من البدن كالبخار كما سمى أصله سلالة من الطين لأنه استلها من جميع الأرض كما في جامع الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم ‘إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض’ “، وهذا من ولع الإنسان بالأنساق الشمولية.
ورغم تبنيه لمذهب أبقراط في شمولية التخلّق إلا أنه أخذ رأيا معارضا أيضا بقوله “أما الخصيان فلتوافر المني على أبدانهم يصير دمهم غليظا بلغميّا” وهذا من قول أرسطو بأن المني هو طعام فائض، ولذا يوجد عند الخصيان كغيرهم، فهو لا يحتاج حرارة الشهوة ليُستَل من أجزاء الجسد كما قال أبقراط. وتبعا لمذهب أرسطو، “المني فَضْلةٌ أعدّتها الطبيعة للدفع كسائر الفَضْلات” بلفظ ابن رشد، وبقائها يجعل الدم بلغميا مثلها.
– إبن القيم. التبيان في أقسام القرآن.
– Fagles, Robert. Aeschylus, the Oresteia: Agamemnon, the Libation Bearers, the Eumenides. Penguin Books., 1977.
٩) وحظر أطباءٌ حملَ الصغيرة حتى عند غير العرب، ومثّلَ هايمز لذلك.
١٠) فقبل القرن ٢٠، لم يعرف الطب أداة منع حمل نافعة إلا عوازل الأنثى، فاختارها ناشطوا المالتوسيه المُحدَثة لتولية المرأة على ضبط الإنجاب. ولما ظهر اللولب والعازل الذكري وحبوب منع الحمل، ظل رجاحُ وسائل المرأة، وزاد رجاحَها ذمُ النسويات لما هو ذكوري.
١١) تلاحظ مونيكا جرين أن الغرب المسيحي ترجم نصوص الأطباء المسلمين عن منع الحمل والإجهاض كاملة، رغم مخالفتها لمواقف قطعيّة مسيحية. ولم تجد جرين إستثناءً إلا تجنب قسطنطين الأفريقي ترجمة وصْفات الإجهاض لـ ابن الجزار.
كما تلاحظ جرين أن من كُتُب سِيَرِ قسطنطين الأفريقي ما طمس ذِكر كتاباته عن طب المرأة وطب الجنس، ففي زمن قسطنطين كانت أوروبا هي العالم الثالث، والعلوم الغربية المؤسلَمة عادت بمواقف شرعية عن الجنس ومنع الحمل والإجهاض تخالف جداً [أي أكثر تسامحا] ما كانت عليه الجماعة المسيحية المستقبِلة لتلك المعارف. وتضيف جرين أن مما فاقم التوتر بين العلم والدين في أوروبا كونُ لُب التراث الفكري للعلوم الأوربية اللاحقة جاء من جماعة حضارية وعرقية تختلف جوهريا عن أوروبا.
– Monica H. Green, “Constantinus Africanus and the Conflict Between Religion and Science,” in The Human Embryo: Aristotle and the Arabic and European Traditions, ed. G. R. Dunstan (Exeter: Exeter University Press, 1990), pp. 47–69.
١٢) يَحتمل مُسَلَّم أن المصريين حَدّوا الإنجاب بعد الطاعون، إضافة للأسباب التي رآها ستيوارت بورش وغيرُه من دارسي تأخر تعافي مصر مقارنة بالغرب.
قارن بورش إنجلترا بمصر ولاحظ تبعات إقتصادية حسنة بإنجلترا بعد الطاعون (كارتفاع الأجور وتنوع المحاصيل وانخفاض الأجار) ونقيضها في مصر. ورأى في مركزية إدارة الري المملوكية ومَحليّة مثيلاتها بإنجلترا السبب الأساس، ولاحظ أن مصر الرومانية تعافت مثل إنكلترا من وباء وقع وكانت إدارات الري محلية.
وقد أحصى مايكل دولز ٥٦ وباءاً أصاب المشرق في نحو ١٦٠ سنة، ٣٤ منها ضمَّ مصر. ودعت الكثرةُ دولز للقول بأن الوباءً أقامَ في المشرق.
– Borsch, Stuart. The Black Death in Egypt and England, a Comparative Study. University of Texas Press, 2005.
– Dols, Michael Walters. Black Death in the Middle East. Princeton University Press, 1977.