إبتكر نايف المطوع شخصيات خارقة للأطفال تقابل سوبرمان وغيره، وفكرته هي الـ ٩٩ شخصية (بعدد أسماء الله الحسنى) التي تشكل فريقا بطوليا يحاول تقديم قيم إسلامية إيجابية للجميع. حاز هذا العمل السبّاق اهتماما عالميا واسعا، فامتدحه الرئيس اوباما وحصل على عدة جوائز.
في بداية تعريفه بالـ ٩٩ لجمهور TED، ذكر المطوع أن شخصيات خارقة اقتبسها مبتكروها من التراث الديني، وأعطى الأمثلة التالية:
– باتمان وسوبرمان اقتبسهما يهوديان من التوراة.
– مثل الأنبياء، فقدَ الأبطال الخارقون آبائهم، فوالدا سوبرمان ماتا قبل إكماله السنة، وباتمان فقَد والديه قبل السادسة، وسبايدرمان ربته عمته.
– كما تلقى الإنبياء رسالاتهم من السماء، فإن كل الشخصيات الخارقة أخذت رسائلها من الأعلى. تلقى سبايدرمان رسالته بلسعة عنكبوت هبط له في مكتبة، وباتمان نزل له خفاش وهو في غرفة نومه. أما سوبرمان فإنه لم يُرسَل من السماء فقط، بل أرسِل وهو رضيع داخل قذيفة، وكأنه موسى يُترك في النهر، وقال والده عند إرساله: “أرسَلت لكم إبني الوحيد”، في مقاربة لصورة عيسى في المسيحية.
ملاحظات المطوع صحيحة، لكن نتيجته خاطئة. أبطال رسوم الأطفال يشبهون الشخصيات التوراتية، لكنهم لم يُقتبسوا (بالضرورة) من قصص الأنبياء. إن كل الأبطال (في القصص الديني وخارجه) تتشابه صفاتهم، ورحلتهم البطولية (من الميلاد حتى النهاية) تمر بمفاصل متشابهة، لا تخرج عن ذلك قصة نبي في كتاب مقدس أو مجرد غزال في أسطورة أفريقية قديمة. ما يبدو شخصاً أو حدثاً خاصاً هو قطعة من نسيج حاكه واستلذه كل البشر في كل الأزمنة، فهو بقِدَم ذاكرة البشر، ولو سألنا والتر بركيت لربما أقسم أن صورة وسيرة البطل ورثهما الإنسان من جينات أجداده!
في كتابه الشهير “البطل ذو الألف وجه“، درس جوزيف كامبل أساطير البطولة لدى الشعوب، ولاحظ تشابهها. مثل هوليوود (شيخ حكواتية زماننا)، تُسمعنا تلك القصص ما نحب، لأنها (هي أيضا) تريدنا أن نتلقاها وننقلها بشغف دائم. لم تأخذ بطولاتُ هوليوود ورسومُ الأطفال فكرتَها من الكتب المقدسة، بل إن الجميع رجع لنسق البطولة المحفوظ في اللاوعي الجمعي للبشر، كما اقترح كارل جونك الذي تأثر به كامبل.
وضعُ سوبرمان الرضيع في قذيفة هو نسق متكرر في أساطير البطولة يسميه كامبل “نفي وعودة الرضيع”. هذا موجز لأمثلة قدمها كامبل، مع تعليقات مني:
١) الملك سرجون الاكادي (٢٣٠٠-٢٢١٥ ق م): القائد الشهير هو ابن امٍ وَضِيعةٍ وأبٍ مجهول، وأخفت والدته حمله وولادته عن بطش الملك، وتركته في سلة بنهر الفرات، ثم التقطه عامل بقصر الملك، فتربى في القصر وكبر ليغلب الملك.
كُتبت أقدم نصوص التوراة نحو القرن التاسع قبل الميلاد، أي ان قصة سرجون سبقت التوارة بنحو ١٣٠٠ عام.
٢) شاندراجوبتا (٣٤٠-٢٩٨ ق م): مؤسس سلالة موريا الهندوسية هو ابن خطيئة لأم وضيعة وأب نبيل، وقد تُرك في جرة عند حظيرة بقر، ليكتشفه راع ويربيه.
آنذاك، لم تعرف الهندُ اليهوديةَ لتتأثر بها.
٣) البابا جرجوري (٥٤٠-٦٠٤ م): إبن خطيئة من توأمين نبيلين. وضعته أمه في تابوت وألقته في النهر، ثم التقطه ورباه صيادون.
وفي هذه الامثلة (وغيرها) يعيش البطل بلا أب (ولا نسل)، لأن أباه ميت أو مجهول، فدور الأب في سيرة البطل لا يتجاوز الإختفاء بعد تقديم البطل للوجود.
ولحظة تلقي الرسالة (التي أشار لها المطوع) هي من أهم مشاهد سيرة البطولة. يأتي نداء البطولة من السماء، كما تأتي الهداية (بالنور والنجوم) والحياة (بالشمس والمطر) والغضب، فالرب هو “العالي” كما سماه أهل الهلال الخصيب، وهو من ارتبطت المرتفعات بمعابده وعبادته. ويزيد كامبل، عادة ما تُبلغ الرسالةَ قُوةٌ مجهولة ومخيفة، وينكرُ البطلُ الأمر ليعود لحياته القديمه، لكن تظهر علامات تؤيد البلاغ فيقبله. ويستعير كامبل اقتراح فرويد بأن كل لحظات التوتر تعيد خلق المشاعر المؤلمة للحظة الإنفصال عن الأم (كضيق النفس واحتقان الدم)، فكأن البطل يواجه “أزمة ولادة” للإنفصال عن جسد حياته وقبول سيرة جديدة.
أخذ كامبل من جيمس فريزر عالمية النموذج الأسطوري، ففريزر كان المرجعية المؤثرة لدراسة الأساطير والطقوس العالمية، ففرويد (مثلا) استند على فريزر في كتابه الشهير “الطوطم والتابو“، بل إن مادتي “طوطم” و “تابو” كتبهما فريزر للموسوعة البريطانية. وقد دفع فريزر لتخصصه أستاذُ اللغة العربية في كامبردج روبرتسن سميث، الذي وظف إتقانه للغات الساميّة والتوراة وأعمال فريزر لدراسة الأسطورة والطقوس في السياق السامِيّ، فقدم أعمالا أهمها “ديانة الساميين”، وليتنا نترجم كتابه عن الزواج والقربى عند عرب الجاهلية (“القربى والزواج في الجزيرة العربية المبكرة”)، فسعة اطلاعه وحضور رأيه يستحقان العرض والنقاش. إن غياب نسخة عربية سمح لـ”اقتباسات” كبيرة (بأسلوب الإستعارة المنتهية بالتمليك!)، كما فعل اسماعيل أدهم في “من مصادر التاريخ الإسلامي” مستغلا (كغيره) حداثة اتصالنا بآراء الغرب والفجوة التعليمية الكبيرة في العالم العربي آنذاك.
بحَث المطوع عن شخصيات الرسوم في الكتب المقدسة، وهذا خيار سهل له وجمهوره، ونتيجته تجعل الـ ٩٩ بديلا إسلاميا لشخصيات يهودية ومسيحية. كما أن حديث المطوع يأخذ لأبعد من رسالة الحب التي أرادها، ففينا من سيفهم أن شخصيات الرسوم تبشر أطفالنا لأديان أخرى، فنبدأ حربا مقدسة كرتونية جديدة. لكن المطوع أخطأ، فسيرة البطولة أقدم وأوسع من الكتب المقدسة، فكل شعب نسج بطله، وإذا بهم يرسمون بطلا واحداً بألف إسم.