‎الكاتب: علي آل عمران

25مايو

محاولة للعودة للكتابة

إنقطعت ُعن الكتابة منذ سنتين، وقبل ذلك كانت كتابتي موسمية وتحمل سمات الحوليات. أظن أن لذلك عدة أسباب، منها:

١) ضعف لياقة الكتابة: الكتابة من العضلات الضعيفة عندي، والتي لم أدربها لممارسة مستمرة. بل (إمعانا في التشبيه) يبدو أنني نمّيت قدرة الكتابة كعضلة بيضاء، تنفع الأعباء الثقيلة والقصيرة، بينما عليّ التدرب على كتابة خفيفة متصلة!

٢) هاجس الإتقان: أنا ممن مارسوا التدوين (خطأ) كالنشر في دورية محكَّمة، وهذا التحريف (الذي تسرب أحيانا حتى للتدوين القصير في تويتر) قد يُنتِج أعمالا كثيفة متقطعة، وذلك يناقض التدوين كإنتاج خفيف متصل. من أعراض تلك الحالة أني راجعت وحررت عدة مقالات نحو ١٠٠ مرة قبل النشر. أعرفُ هذا لأن عدّاد القراءات يكون قرب المائة وقت النشر.

٣) سوء إدارة الوقت: أي سوء إدارة الحياة.

هدف الكتابة عندي هو الإنتاج. هذه المدونة لا تسعى لتغيير العالم (ولا تتجنب ذلك الدور)، بل نيّة صاحبها هي الكتابة كسلوك إنتاجي فقط. ولإسعاف هذه المحاولة الإنتاجية، سأحاول:

أ) التدوين القصير الخفيف، وإن اكتفت التدوينة بفقرة واحدة.
ب) التنويع حسب تقلّب هاجس الكاتب، وذلك توجهٌ قديم للمدوَّنة.
ج) تجنُّب انتقاء المواضيع، والكتابةُ عن هاجس اللحظة، دون التركيز على كتلة جمهور معينة.

هذا هو “عمود” المدونة المرجو، ومراعاته قد تنتج تدوينات كثيفة وأخرى لا تتجاوز كونها:
– ملاحظة طرية عن رأي أو تطور ما.
– نقل لرأي (كقصاصة من كتاب) لمن يهتم به ويريد تتبعه، مع هامش نحيل.
– مطالعة لمقال أو كتاب.

4أكتوبر

دمج شرقي

تجذبني موسيقى الدمج، وخاصة الدمج الشرقي (oriental fusion)، وأظن أن هذا النمط عانى من قلة الأعمال الجميلة وقلة اهتمام الجمهور. موسيقى الدمج تصهر عدة أنماط موسيقية معا، وأنا أهتم فقط بالدمج بين موسيقى الشعوب كعمل جمالي يزاوج عدة ثقافات، واهتمام هذا المقال هو عرض نماذج لدمج الموسيقى العربية بالغربية.

تقديم

الشرق هو صندوق العجائب الذي لا يُحسن الغربُ تركَه. سطوة هذا الطلسم الشرقي تتسع للموسيقى، والتوابل التي تكاد تجعل الكاري طعام بريطانيا الوطني، والعقائد التي جعلت ستيف جبز يفكر في الإعتكاف كراهب بوذي بدل تأسيس أبل، وكل شيء..

البريطاني Ron Goodwin هو مثال لمن سكنتهم روح الشرق، لتعزف أوركستراه للرحابنة في ألبومه Salute to Lebanon (١٩٦٢)، وتصبح قراءته لـ”بكرا بيجي نيسان” أحد أجمل المقاطع العالمية:

وعلاقة الغرب بالموسيقى العربية أوسع من عزفها (كتجربة Ron Goodwin) أو دمجها (كما سنعرض لاحقا)، فالموسيقى العربية دخلت أوروبا مع الأمويين لتظل هناك. إنتفض الأسبان ضد بعض آثار العرب، وأغلقوا حمامات الاستحمام انكارا لبدعة الطهارة، لكن الموسيقى العربية احتمت بالقصر والكنيسة، ثم ساهمت بروحها للفلامنكو، والفلامنكو تفضل “قيثارة” الأندلسيين التي حرّفها الأسبان لـ”جيتار”. نبض الموسيقى العربية باق بالفلامنكو، كهذا المقطع للألماني Govi:

موزار المصري

قد يكون الفرنسي Hughes de Courson أكثر من بذل للمزج الشرقي، وقدم البومين (في ١٩٩٧ و ٢٠٠٨) ضمن مشروع يقارب الموسيقى الشعبية المصرية وموزار. في عمليه الرائدين، شارك عازفون مصريون مهمون (كعبده داغر) والأوركسترا البلغارية.

في صغره، رفض والداه أن يصبح موسيقيا، لكنه برع في الموسيقى الشعبية الفرنسية وتوسع لموسيقى الشعوب. مكّنته جائزة ليوناردو دافنشي من قضاء ٣ سنين لتعلم الموسيقى بمصر واليمن وسوريا واسرائيل وتركيا ودول متوسطية. ولأنه علّم نفسه الموسيقى، لم يستمع للموسيقى الكلاسيكية قبل سن ٤٥، ورغم ذلك كان البومه “موزار المصري” أحد أكثر الألبومات مبيعا بفيرجن كلاسيك، وانظم مزجه للـ ”السيمفونية المصرية رقم ٢٥ لموزار” لأجمل المقطوعات:

انت عمري

ماردو النور ذو سيرة مدهشة، فهذا العراقي النيوزلندي هجر الطب لإنتاج الموسيقى والرسم والتصوير. ومع أنه لم يكتب نوتة من قبل، وقّع عقداً مع EMI لتوزيع ألبومه الأول بعد ٦ شهور، وتوالت مفاجآت قدَره في الرسم وإنتاج الأفلام أيضا.

رغم أن ماردو انتج ٤ البومات، كانت “أنت عمري” الأبرز دائما، وتبدو كفخ لا ينفذ منه، وكأنها “الخبز الحافي” التي نذر محمد شكري عمره للتفوق عليها! ماردو أعاد خلق “أنت عمري” من طين الغرب، ثم نفخ فيها من روحه الشرقية:

بهو الشاه

أنتج اللبناني جان معوض لسيد مراد، لكن ألبومه Shah Lounge يقدم رؤية أرقى لموسيقى الدمج، وفيه قدم أثنتين من أجمل أعمال المزج الشرقي: Ain’t No Sunshine و Perhaps, Perhaps, Perhaps.

غنى بيل ويِثَرز Ain’t No Sunshine (لا إشراقة شمس!) في ١٩٧١. بعدها بعام، غناها بتفوق مدهش صبي في الثالثة عشر يدعى مايكل جاكسون. معوض صَهَر Ain’t No Sunshine في قالب شرقي جميل:

ألّف الكوبي Osvaldo Farres أغنية “Quizás, Quizás, Quizás” بالاسبانية في ١٩٤٧، ولم يكن قد قرأ أو كتب نوتة موسيقية آنذاك، ثم انتقلت للانجليزية (Perhaps, Perhaps, Perhaps) وانتشرت بسرعة بين المغنين والأفلام بعدة ثقافات. وقد تأثر بها موسيقيون عرب مبكراً، فاستوحى منها الجزائري عبدالحكيم جرامي أغنية الراي “شهلة العياني” في ١٩٥٨. وحديثا، إقتبس منها جان ماري رياشي اغنية “بالعكس”.
معوض لم ينقل الأغنية للعود، بل أعادها له، ليقدم قراءة شرقية تنافس الأصل:

إبن السبيل الحافي!

في ٢٠٠٥، أسس العازف والمغني الاميركي برينان جيلمور وعازف العود التونسي رياض الفهري فرقة قنطرة، بمشاركة آخرين من البلدين، فظهرت فرقة تمزج بين الثقافتين: الموسيقى العربية وموسيقى ريف الشرق الأميركي. في ألبوم “قنطرة” الوحيد، تبرز أغنية Wayfaring Stranger:

“لما بدا يتثنى”، على ثلاث قراءآت

أحب موشَّح “لما بدا يتثنى” و (خصوصا) تجسُّداته في موسيقى الدمج، كهذه:

– قراءة Hughes de Courson:

– قراءة جين ماري رياشي:

– قراءة اللبناني شربل روحانا:

ما بعد الفن!

من قرية المفتاحة التشكيلية بعسير إلى مزاد كريستين، صعدت آعمال التشكيلي السعودي عبدالناصر غارم بتنوع أساليبها وجرأتها وشحنتها الثقافية، لتشمل انجازاته أعلى سعر لعمل فني عربي.

لعبدالناصر تجربة موسيقية جريئة ومغمورة، سمّاها Post Art، وهي ٦ مقطوعات تقارِب بين الجاز والموسيقى الشعبية بعسير، هذه أحدها:

من لطف الله أن كمال صليبي لم يعرف Post Art! غوى عبدُالله بن خميس كمالَ صليبي بمعاجم جغرافية الجزيرة العربية، فكتب صليبي أن “التوراة جاءت من جزيرة العرب”! ولو عرف صليبي Post Art لقال أن “الجاز جاءت من جزيرة العرب”!

17سبتمبر

الإنضباط هو عائق السعودة الأول

إنضباط الشاب السعودي هو عائق السعودة الأول، وليس المعرفة الأكاديمية أو المهارة الحرفية. والإنضباط (discipline) هو عائق الإنتاجية الأول في الشرق الاوسط، وهو سبب تخلفنا الإنتاجي – الإبداعي مقارنة بالمناطق الأخرى في العالم. الشعوب الاكثر إنتاجا ليست أكثر ذكاء، فالذكاء لا يصنعه المكان أو الجنس أو العقيدة، بل هو مادة خام موجودة بكل دولة بما يكفي حاجتها التنموية. ثم إن المؤسسات (كالدول والشركات) لا تحتاج إلا القليل من الأذكياء المنضبطين في المهام الإبداعية (كالقيادة والأبحاث والتطوير)، أما أغلب العاملين فلا يحتاجون سوى الإنضباط لتشغيل المؤسسة بكفاءة. الإنضباط هو العامل المشترك بين كل الدول العالية الإنتاج، وليس انخفاض الفساد والبيروقراطية أو ارتفاع الديموقراطية والليبرالية.

الإنضباط هو أن يتحمل الفرد مسؤولياته بلا تقصير وصلاحياته بلا تعدي، ويشمل ذلك (ضمنا) الإلتزام بمسؤوليات وصلاحيات الآخرين في المؤسسة، دون الخلط بين دوره في المؤسسة وخارجها. هذه هي القيمة الأساسية التي تزرعها المجتمعات المنتجة في أفرادها، من البيت للجامعة، فيحملها الفرد للوظيفة. وإذا وجدت المؤسسة عجزا في مهارات الفرد فإن انضباطه يعينها على رفع مهارته، فسيقبل النقد ويبذل جهدا في التعلم. وسواء كنا في المؤسسة أو البيت، فإننا نفضّل المنضبط القليل المهارة على الماهر القليل الإنضباط.

أعراض ضعف الإنضباط تظهر في مرحلتين: البحث والعمل. نسبة البطالة بالسعودية هي حوالي ١٠٪ (في الإحصاءات المحافظة جدا)، ولا تكاد تخلو عائلة من عاطلين وعاطلات، لكن قلة من هؤلاء يبحثون عن وظائف بإصرار. تجتذب بعض الوظائف إقبالا واسعا، كما تؤكد مشاهد محزنة، لكني أظن أن ذلك العدد هو نسبة قليلة من مجموع العاطلين الصالحين لتلك الوظائف، وهي وظائف تقبل خريجي الثانوية أو أقل، وهم كثيرون أفقدهم ضعف انضباطهم (وليس ذكائهم) إكمال تعليمهم. أما في الوظائف المتخصصة، فالوصول للسعودي المناسب يحتاج شهورا من البحث. (من الطريف أن يلجأ سعودي في الرياض لبريطاني في لندن ليجد سعوديا في الرياض.) أعترف بوجود عوامل أخرى، فالتعليم لا يكسِب الطالب مهارات التقدم للوظائف، وأكبر أسواق الوظيفة بالخليج (السعودية) تفتقر قواعد بيانات وظيفية، كما تفتقر التدريب المتخصص، لكني أرى أن الإنضباط يستطيع التغلب على هذا الوضع.

الإنضباط هو أهم ما قدمت جامعة الملك فهد ومعهد الإدارة لمخرجات التعليم، وما نريده من كل المؤسسات التعليمية هو تعزيز ثقافة الإنضباط بصرامة. من المؤسف أن نحمِّل مرحلة التعليم الأخيرة (الجامعات والمعاهد) كامل مسؤولية اصلاح السلوك، وجعله هدفا يسبق المهارات الأكاديمية، لكنها تبقى صمام الأمان الأخير قبل سوق العمل. من نواقص هذا الخيار أن الكثير من السعوديين يكتفون بالشهادة الثانوية أو أقل، وغياب التشديد على الإنضباط في البيت والمدرسة يحرم هؤلاء من تطوير سلوكهم ويثقل المسؤولية الإجتماعية التي نحمّلها الجامعات والمعاهد.

بلا شك، نتيجة تمدننا الطارىء هي خليط صعب من التقدم والإنتكاسات القِيَميّة، وانضباط الفرد هو أحد القيم المتضررة. لنأخذ قريتي البحرية – الزراعية بجوار الخليج كمثال. البحار والغواص عرفا أن التهاون يكلف الحياة، والغوص مؤسسة تراتبية بانضباط العسكر. أما الزراعة فاعتمدت على حضور المزارع قبل ظهور الشمس واهتمامه المضني بالمحصول والحيوانات طول العام. كما أن الزراعة هناك كانت اقطاعية في الغالب، فالمزارع لم يملك الأرض، بل سكنها وأدارها مقابل كمية محصول التزم بها للإقطاعي، وقد يخسر مزرعته (أي دخله وسكن عائلته) إذا أخل بالشروط أو قدّم مزارعٌ آخرٌ إلتزاما أعلى. إذن، الإنضباط ضرورة في البحر والمزرعة، وحدود المسؤوليات والصلاحيات جزء منه. وفي كل الأحوال، لم يتوقع أو ينتظر الفرد حلولا لمشاكله من الحكومة أو غيرها. هذه القرية الجميلة الطاهرة تواجه اليوم (كغيرها) تبعات الفقر والجهل، فكثير من شبابها هم خارج اقتصاد بلدهم (وهو أكبر اقتصاد بالشرق الأوسط)، اإما لأنهم لا يعملون، أو يعملون بأجور تبقيهم تحت خط الفقر. هؤلاء السعوديون يتكئون على حيلَتي الضعيف: الشكوى والرجاء.

قيم الإنضباط نفعت (وإن لم تكف) الأجيال الأولى التي عملت بالمؤسسات الحديثة، لكنها لم تنتقل لأجيال لاحقة. كان الإنضباط قيمة يتعلمها الفرد من مجتمعه، فصارت صفة نادرة ضد التراخي العام. أظن أن سبب انتكاس الإنضباط هو دخول (وطريقة دخول) الدولة كمستثمر شريك في مشروع تنمية كل شاب، بعد أن كان يحدد مصيره بموارده وظروفه المرتبكة. كممول، شاءت الدولة أن تكون شريكا في الأرباح ( أي قصة النجاح)، ففهم الناس أنها (أيضا) شريك في الخسائر. فعندما قالت أنها سبب التوظيف، فهم الناس أنها سبب البطالة أيضا. كما أن عَقد الشراكة يُنفّذ بتساهل يحمّل الدولة مسؤوليتي التمويل والنتائج، وتعفي الشاب من المسؤولية بجعله متلق سلبي. يجب على أي حل لهذا المأزق ان يشدد على أن الشراكة مشروطة بالتزام، والإستثمار محدود بنتائج الإلتزام. إن وصاية البيت والدولة المسرفة على الأجيال الجديدة أتلفتها، وأتلفت البلد.

أغلب دوافع استيراد العمالة خاطئة، ولا يخرجنا من وضعنا الهالك – المهلِك سوى التزامات صلبة من كل الأطراف. لكن القيمة الحقيقية التي نستوردها في العمالة هي الإنضباط، فالميكانيكي يتعلم إصلاح سيارة يراها لأول مرة وبعبء قليل على مؤسسته، لأنه يعتبر إتقان الصنعة شرط بقاء، وهكذا يفعل المبرمج والمهندس. قِيمهم تحملّهم وحدهم مسؤولية بقاءهم ونجاحهم، فهم لا يتقنون اللجوء للغير لأنهم لم يعرفوا في حياتهم من يلجأون له.

10أغسطس

أبطال رسوم الأطفال والشخصيات الدينية

إبتكر نايف المطوع شخصيات خارقة للأطفال تقابل سوبرمان وغيره، وفكرته هي الـ ٩٩ شخصية (بعدد أسماء الله الحسنى) التي تشكل فريقا بطوليا يحاول تقديم قيم إسلامية إيجابية للجميع. حاز هذا العمل السبّاق اهتماما عالميا واسعا، فامتدحه الرئيس اوباما وحصل على عدة جوائز.

في بداية تعريفه بالـ ٩٩ لجمهور TED، ذكر المطوع أن شخصيات خارقة اقتبسها مبتكروها من التراث الديني، وأعطى الأمثلة التالية:

– باتمان وسوبرمان اقتبسهما يهوديان من التوراة.

– مثل الأنبياء، فقدَ الأبطال الخارقون آبائهم، فوالدا سوبرمان ماتا قبل إكماله السنة، وباتمان فقَد والديه قبل السادسة، وسبايدرمان ربته عمته.

– كما تلقى الإنبياء رسالاتهم من السماء، فإن كل الشخصيات الخارقة أخذت رسائلها من الأعلى. تلقى سبايدرمان رسالته بلسعة عنكبوت هبط له في مكتبة، وباتمان نزل له خفاش وهو في غرفة نومه. أما سوبرمان فإنه لم يُرسَل من السماء فقط، بل أرسِل وهو رضيع داخل قذيفة، وكأنه موسى يُترك في النهر، وقال والده عند إرساله: “أرسَلت لكم إبني الوحيد”، في مقاربة لصورة عيسى في المسيحية.

والد سوبرمان  يرسله للارض في قذيفة

ملاحظات المطوع صحيحة، لكن نتيجته خاطئة. أبطال رسوم الأطفال يشبهون الشخصيات التوراتية، لكنهم لم يُقتبسوا (بالضرورة) من قصص الأنبياء. إن كل الأبطال (في القصص الديني وخارجه) تتشابه صفاتهم، ورحلتهم البطولية (من الميلاد حتى النهاية) تمر بمفاصل متشابهة، لا تخرج عن ذلك قصة نبي في كتاب مقدس أو مجرد غزال في أسطورة أفريقية قديمة. ما يبدو شخصاً أو حدثاً خاصاً هو قطعة من نسيج حاكه واستلذه كل البشر في كل الأزمنة، فهو بقِدَم ذاكرة البشر، ولو سألنا والتر بركيت لربما أقسم أن صورة وسيرة البطل ورثهما الإنسان من جينات أجداده!

في كتابه الشهير “البطل ذو الألف وجه“، درس جوزيف كامبل أساطير البطولة لدى الشعوب، ولاحظ تشابهها. مثل هوليوود (شيخ حكواتية زماننا)، تُسمعنا تلك القصص ما نحب، لأنها (هي أيضا) تريدنا أن نتلقاها وننقلها بشغف دائم. لم تأخذ بطولاتُ هوليوود ورسومُ الأطفال فكرتَها من الكتب المقدسة، بل إن الجميع رجع لنسق البطولة المحفوظ في اللاوعي الجمعي للبشر، كما اقترح كارل جونك الذي تأثر به كامبل.

وضعُ سوبرمان الرضيع في قذيفة هو نسق متكرر في أساطير البطولة يسميه كامبل “نفي وعودة الرضيع”. هذا موجز لأمثلة قدمها كامبل، مع تعليقات مني:

١) الملك سرجون الاكادي (٢٣٠٠-٢٢١٥ ق م): القائد الشهير هو ابن امٍ وَضِيعةٍ وأبٍ مجهول، وأخفت والدته حمله وولادته عن بطش الملك، وتركته في سلة بنهر الفرات، ثم التقطه عامل بقصر الملك، فتربى في القصر وكبر ليغلب الملك.
كُتبت أقدم نصوص التوراة نحو القرن التاسع قبل الميلاد، أي ان قصة سرجون سبقت التوارة بنحو ١٣٠٠ عام.

٢) شاندراجوبتا (٣٤٠-٢٩٨ ق م): مؤسس سلالة موريا الهندوسية هو ابن خطيئة لأم وضيعة وأب نبيل، وقد تُرك في جرة عند حظيرة بقر، ليكتشفه راع ويربيه.
آنذاك، لم تعرف الهندُ اليهوديةَ لتتأثر بها.

٣) البابا جرجوري (٥٤٠-٦٠٤ م): إبن خطيئة من توأمين نبيلين. وضعته أمه في تابوت وألقته في النهر، ثم التقطه ورباه صيادون.

وفي هذه الامثلة (وغيرها) يعيش البطل بلا أب (ولا نسل)، لأن أباه ميت أو مجهول، فدور الأب في سيرة البطل لا يتجاوز الإختفاء بعد تقديم البطل للوجود.

ولحظة تلقي الرسالة (التي أشار لها المطوع) هي من أهم مشاهد سيرة البطولة. يأتي نداء البطولة من السماء، كما تأتي الهداية (بالنور والنجوم) والحياة (بالشمس والمطر) والغضب، فالرب هو “العالي” كما سماه أهل الهلال الخصيب، وهو من ارتبطت المرتفعات بمعابده وعبادته. ويزيد كامبل، عادة ما تُبلغ الرسالةَ قُوةٌ مجهولة ومخيفة، وينكرُ البطلُ الأمر ليعود لحياته القديمه، لكن تظهر علامات تؤيد البلاغ فيقبله. ويستعير كامبل اقتراح فرويد بأن كل لحظات التوتر تعيد خلق المشاعر المؤلمة للحظة الإنفصال عن الأم (كضيق النفس واحتقان الدم)، فكأن البطل يواجه “أزمة ولادة” للإنفصال عن جسد حياته وقبول سيرة جديدة.

أخذ كامبل من جيمس فريزر عالمية النموذج الأسطوري، ففريزر كان المرجعية المؤثرة لدراسة الأساطير والطقوس العالمية، ففرويد (مثلا) استند على فريزر في كتابه الشهير “الطوطم والتابو“، بل إن مادتي “طوطم” و “تابو” كتبهما فريزر للموسوعة البريطانية. وقد دفع فريزر لتخصصه أستاذُ اللغة العربية في كامبردج روبرتسن سميث، الذي وظف إتقانه للغات الساميّة والتوراة وأعمال فريزر لدراسة الأسطورة والطقوس في السياق السامِيّ، فقدم أعمالا أهمها “ديانة الساميين”، وليتنا نترجم كتابه عن الزواج والقربى عند عرب الجاهلية (“القربى والزواج في الجزيرة العربية المبكرة”)، فسعة اطلاعه وحضور رأيه يستحقان العرض والنقاش. إن غياب نسخة عربية سمح لـ”اقتباسات” كبيرة (بأسلوب الإستعارة المنتهية بالتمليك!)، كما فعل اسماعيل أدهم في “من مصادر التاريخ الإسلامي” مستغلا (كغيره) حداثة اتصالنا بآراء الغرب والفجوة التعليمية الكبيرة في العالم العربي آنذاك.

بحَث المطوع عن شخصيات الرسوم في الكتب المقدسة، وهذا خيار سهل له وجمهوره، ونتيجته تجعل الـ ٩٩ بديلا إسلاميا لشخصيات يهودية ومسيحية. كما أن حديث المطوع يأخذ لأبعد من رسالة الحب التي أرادها، ففينا من سيفهم أن شخصيات الرسوم تبشر أطفالنا لأديان أخرى، فنبدأ حربا مقدسة كرتونية جديدة. لكن المطوع أخطأ، فسيرة البطولة أقدم وأوسع من الكتب المقدسة، فكل شعب نسج بطله، وإذا بهم يرسمون بطلا واحداً بألف إسم.

19يونيو

حوار إعجازي

Rakan: What we see today in our solar system is nothing more than the result of a collapsing cloud of dust and gas .. order from chaos!

ع: لِمَ يُذكرني هذا بقوله تعالى: “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ”؟

علي: قَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ. هل يعني أن الأرض كانت موجودة في تلك اللحظة من الكون؟

ع: هذا من باب قوله للشيء كن فيكون. أي شيء تريد أن توجده أنت كشخص يكون لديك كفكرة في نفسك ثم توجده في العالم الحقيقي.

علي: أي أن الدخان حقيقة والأرض فكرة. على أي أساس اخترتَ كلمة معينة في النص واعتبرتها فكرة أو مجازا؟ هل لأنك بعد ١٤٠٠ اقتنعتَ بفكرة معينة واحتجتَ أن تؤل النص لتحميه منها؟ لماذا لا يكون الدخان مجازا والأرض حقيقة؟ وما رأيك أن نعتبر كل شئ مجاز ونريح أنفسنا وكل الأجيال القادمة من لعنة العلم؟

ع: لا ليست مجازًا، إذا كنت تتكلم عن خالق كل شيء :) فهمها من تكملة الآيات بعدها “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ…”، يعني أن إيجاد السموات والأرض كان بعد ما حصل في الآية السابقة.

علي: اظن ان هناك لغتين (أو لسانين) للقرآن اليوم: لغة الفقهاء ولغة أصحاب الإعجاز (أو الخيال) العلمي. يحاول الفقيه فهم كلام الله بفهم كلام البدوي في الصحراء، ويخضع النص لسيبويه (النحو) والخليل (القاموس)، ولا مكان هنا لـ “أدنى الأرض” بمعنى “أهبطها” أو “دحى” بمعنى “كوّر”. هذا كله عبث.
‎أما لغة الإعجازيين فتهمل ذلك الإنضباط لأنه يعيق حركتهم، وتفضل لغة مائعة يذوب فيها الزمان والمكان وقواعد اللغة والمعجم لصالح الإستعراض الذي يريده لاعب السيرك. وفي حين يُخضِع الفقيه لغة الخالق لشِعر البدوي، يفضّل الإعجازي إخراج صاحب النص (والنص) من المكان والزمان ويجرده من كل قوانين وقيود الكون، ليعطيه صلاحيات مطلقة تنتقل لمفسر النص نفسه. الفقيه يقيد صلاحياته بتقييد لغة النص بلغة البدوي، والإعجازي يحرر نفسه (لدرجة الإباحية الفكرية) بتحرير صاحب النص.
‎إسمح لي أن أطبق لغة الفقهاء الأكثر مسئولية على ذلك المقطع القرآني، وسأرتب أحداث الخلق من الآية التاسعة:
‎٩) خلَق الأرض في يومين.
‎١٠) جعَل فيها رواسي وقدّر أقواتها في أربعة أيام.
‎١١) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها.
‎ترتيب الأحداث يقول أن الله خلق الارض والجبال أولا، (ثم) استوى إلى السماء وكانت دخان. وهذا يناسب فهم أن الأرض كانت موجودة (وليست مشروعا مستقبليا) أثناء مخاطبتها في الآية ١١.

ع: لست ممن يتبَّع بعض “خيالات” الإعجاز العلمي، لكن عندما يكون الأمر واضحًا ومنطبقًا مع ما اكتُشف عندها أصدق به. وارتباط الدخان بمرحلة الخلق ينطبق مع ارتباط الغبار الكوني بنشوء الأجرام السماوية.
‎بالنسبة للآيات التي تسبق الآية المذكورة فاعذرني فربما خانتني الذاكرة في ردودي السابقة، لكن التفسير ما زال قائمًا حتى مع وجود الترتيب المذكور. خلَق الله الأرض، ثم جعل فيها رواسي وقدَّر أقواتها، ثم استوى إلى السماء وهي دخان (أي أنها كانت واستمرت على كونها دخان). وربما أرجِع هنا إلى تفسير قديم هو تفسير الطبري (والذي يعد من أقدم التفاسير الموجودة). يقول في تفسيره لهذه الآية:

وقوله: “فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا” يقول جلّ ثناؤه: فقال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات، وتشقَّقِي عن الأنهار

‎فالتفسير يؤيد نشوء الشمس والقمر والنجوم عندما كانت السماء دخانا.

علي: دعني أسترسل أكثر يا سيدي ع،
‎وجود الأرض حين كانت السماء دخانا يتعارض مع معارفنا الحالية، فهو يعني أن الأرض هي أقدم أجرام الكون. وأنا لا أجد دافعا (سوى التعاطف) لفهم مختلف للنص، فالنص يرتب أحداث الخلق بوضوح.
‎تسلسل الأحداث (وتلاعب الإعجازيين به) ليس هو السؤال الوحيد، فتفسير السماء بالكون والدخان بالغبار الكوني هي حيل اخرى تستحق حديثا اطول.

ع: ترتيب أحداث الخلق فيه اختلاف بين المفسرين أنفسهم، حتى أن الرازي في تفسيره يؤكد وجود الخلاف:

قوله “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ” مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى: “وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا” [النازعات:30] مُشعِر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة.

‎فالمسألة فيها اختلاف قبل حدوث الاكتشاف العلمي أصلاً. وفي الآيات المذكور فيها الدخان ليس هناك إشارة إذا ما كان الدخان قد انتهى بعد أمر الله للسموات والأرض أن تأتيا طوعًا أو كرهًا. وقد يفهم من الآيات أن الله خلق جزءًا من السماء قبل خلق الأرض ثم عندما خلق الأرض قال لها وللسماء “اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً”.
‎أما عن كون الدخان هو الغبار الكوني فلعلك تنظر إلى صور مثل هذه وتحكم بنفسك:

‎هذه تسمى أعمدة الخلق (Pillars of Creation) على فكرة :)
‎من وجهة نظري الشخصية (وربما يتفق معي البعض فيها) أن تفسير الآيات التي تحتمل لغويًّا أن تُفسر بطريقة أخرى (ليس عن طريق التلاعب بالتأويل بل عن طريق البحث اللغوي المتضمن لما يحتمل وما لا يحتمل التأويل) ويُكتشف فيها اكتشاف علمي دقيق ومؤكد قد يغير (أو يحسم الخلاف) من فهمنا لبعض الآيات القرآنية المتعلقة بالمظاهر الحسية. إذ فهم الناس في عصر ما يتأثر بما توفر عندهم من أنواع المعارف.

علي: سمعت انك لا تمل من الجدال، لكني لم أتوقع أن حالتك أصعب مني!
‎ليس هناك ما لا يختلف فيه المفسرون، وقصة الخلق ترد في القرآن بصيغ مختلفة لا يخدمها تهافت التفسير. وعلى عكس البعض، لا أعتبر هذا مجالا للتعددية الخلاقة، بل هو مصدر لمتاعب مزمنة، لكن الإنحراف لمسألة التفسير لا يتحمله ضيق صدر مجلسنا.
‎إن توظيف الأديان للعلم (كشاهد شاف كل حاجة) هو موطن آخر للتساؤلات. فهل يحتاج الثابت شهادة المتغير؟ أم هو من باب ليطمئن قلبي؟ وما قيمة شهادة أي متغير؟
‎إن الصيغ التي تمارسها الأديان للتضامن مع العلم تسيء للطرفين، فالعلم المتعاطف مع الأديان ليس علما بل نكتار علم (١٠٪ علم)، لأن الأديان تختار متى يتحدث أو يصمت العلم، و تزخرف نسخا (منقصة ومنقحة) من العلم.
‎وتلك الصِيغ تضر الدين، لأنها تنقل النص المقدس من المتن إلى الهامش، وتنقل العلم من الهامش للمتن، إذ يصبح المقدَّس شاهدا على متن العلم. إن النصوص المقدسة اليوم تسير مع العلم حيثما سار، وتتلون معه، وميوعة التفسير هي سند عظيم لهذا التلون.

ع: ربما لتكويني الأشعري أثر على حبي للجدال :)
‎هناك ما هو معلوم من الدين بالضرورة كأركان الدين والأحكام الأساسية، وهناك ما يظهر الإختلاف فيه. منذ القدم كان علماء التفسير يجمعون بين حقائق الطبيعة وصيغ الآيات القرآنية، ربما لأن إيمانهم كان أقوى بأن منزل القرآن هو خالق الطبيعة، وهو ما يجعل التعارض مستحيلاً.
‎لست ممن يحاول أن يوفق بين الدين والعلم الطبيعي قسرًا، ولكن في بعض الأحيان تتضح معاني آيات تتناغم بشكل يستحيل أن أعتبره مصادفة.
‎شخصيًّا، أنا مع فصل الأبحاث العلمية عن تأثير معلومات الخلفيات الدينية، وهذا ما يتطلب أن نبحث في حقائق الخلق حياديًّا. لكني في نفس الوقت لا أقف ضد من يجد رابطًا بين مكتشف علمي ومقدس نصي.
‎ولا يضر الدين ظهور مكتَشف علمي قد يتعارض ظاهرًا مع نصه، فالنصوص المقدسة تخضع للغتها، وهناك مجال للنقاش داخل هذه اللغة، وطالما كان التأويل جائزًا لغويًّا، فالنتيجة ليست تمييعًا بقدر ما هي جمع بين واقعين، إلا عند من كان لديه شك أو اعتبر الدين منتجًا إنسانيًّا بحتًا، عندها ينتقل النقاش إلى مرحلة الجذور.

14يونيو

ليست مجرد مدونة!

أخيرا، جمعت كل كسلي وبدأت التدوين! نقلت مقالاتي القديمة (قدم الدهر) من دروب لأختبر بها عمل المدونة ولتكون المدونة ارشيفا كاملا لكتاباتي.

أظن أن المدونة ستتلّون مواضيعها بتلون (وتقلب) اهتمامات صاحبها، وسيرضي ذلك نهم بعض المتابعين ويتعب آخرين. ترغب المدونة أن تنقل تداعياً (شبه) حر لأفكار صاحبها، وتأمل إضافة مدونة سعودية جادة أخرى.

مازلت أطمح في مشاريع الكترونية تكون المدونة أولها، وقد تصبح أصغرها. هدف تلك المشاريع هو إضافة مادة الكترونية جادة للسعوديين (خصوصا) والعرب.

إخترت تصميما بسيطا للمدونة، ربما لأني أعشق هذه الشخصية وفكرة التركيز على “القارىء” وليس “الزائر”، لكني أرى تصميما مختلفا إذا تحققت مشاريع أخرى. لأني عربت التصميم بنفسي بجهد سريع، أرجو ارشادي للأخطاء الباقية.

تقبلوا كل الود..

16يونيو

الطائفية على مذهب أرسطو

مغالطات منطق أرسطو تبدأ بتعريفه، فهو لا “يعصم العقل من الخطأ في الفِكر”. إبتكره وثنيون، ووظفه اليهود والمسيحيون والمسلمون فوافق تناقضاتهم. إنه مومس نامت مع الجميع وشهدت للجميع.

أليس غريبا أن تجد كلُّ العقائد المتناقضة (الدينية والسياسية) في معرفة الإنسان أدلةً على صحتها وخطأ كل الآخرين؟ هل تحولت المعرفة إلى مرآةِ تخبر كل شخص أنه أجمل البشر؟ ما أهمية شهادةِ لا تفرض رأيا واحدا على الجميع كما يفعل مقياس الحرارة وجدول الضرب؟ المعرفة التي لا تصرخ برأيها على الجميع لا تصلح قائدا أو شاهدا.

الإستخدام الشعبي للمعرفة هو ترميم عقلنا القديم بأدلة متمدنة. العقل المفطور على العنصرية، مثلا، يجد في كل معرفة يكتسبها (من الشعوذة إلى الدين والعلم) عونا له، وكذلك العقل المفطور على الإستضعاف أو الإبداع أو العنف أو الكرم، فالمعرفة (في استخدامها الشائع) لا تغيّر قناعاتنا بل تؤدلِجُها، أي تحولها لقيم ننذر حياتنا وموتنا لها.

كره الآخرين يُزرع في عقولنا الطرية قبل أن ينضج جهازها المناعي، فكل فرقة ناجية تقنع أبنائها أنها الحق بإثبات أن كل الآخرين على خطأ، ثم تعزلهم عن الآخرين كإجراء وقائي إضافي. نكبر وتكثر معرفتنا، فنستخدمها للدفاع عن القيم التي زُرعت فينا في أشد لحظات ضعفنا (بل غيابنا)، عندما كنا أطفالا.

التاريخ هو جلدنا الملتهب الذي لا نستطيع لمسه حتى لعلاجه. لكنه لا يقل او يزيد شأنا عن مرمى نفايات سكان نيويورك، فهو خليط من التيجان والجثث وأناشيد الأطفال والصديد والتعاويذ وكل ما يطمع فيه لصوص الآثار وشحاذي المزابل. إليه يرجع الجميع (المنتصر والمهزوم والجائع والجشع والمجتهد والبليد ..) فيجدوا أسباب التأييد والرضى، فهو لا يعيد ذا حاجة خائبا. الكل يبحث عن قِطَع مرآته القديمة في ذلك الركام، والشظايا الصحيحة هي التي تصنع مرآة تُرينا وجهاً يشبهنا، فالتاريخ يحمل وجوها بعدد وجوهنا ورغبات هي كل رغباتنا.

الشرق الأوسط هو شريك مؤسِّس لتعددية الانسان، وصعدت تعدديته مع حضارته، وهي تنكمش بقسوة تَراجُعِ حضارته. لا يستطيع مجتمع حَضَريٌ منتجٌ إلا أن يكون تعدديا، فإذا أدرنا عجلة الإنتاج فسيعمل الناس في كل شيء، بلا حدود، وكثير من محفزات الإبداع الإنساني تدفع للمحمود والممنوع معا، فالإبداع والبدعة يولدان ويموتان سويا. الشرق الأوسط يحتاج صمود كل الأقليات لكبح جماح كل الأغلبيات، فوحشة الرأي هي وحشة الانسان.

أغلب التيارات الدينية المعاصرة تشتغل في السياسة لا العلم، فهي (كأغلب الساسة) تحتاج عدوا يغذي برنامج المواجهة الدائمة (أو الولاء والبراء). وهي (كأغلب الساسة أيضا) تستخدم قِيم عدوها للحكم على قِيمها (enemy-centric)، فرغم أنها بدأت كمدارس فكرية حرة إلا أنها تعلمت آليات البقاء السياسية بعد أن جعلت من آرائها هوية سياسية لا تتحمل المساومة، وصارت ترجّح حساب الارباح والخسائر على الرآي الحر. الكثير من الفقهاء اليوم هم أساسا سياسيون، فحركتهم تحكمها تفاصيل معركة مفترضة.

12أبريل

السيد منير وفيس بوك (٢\٢)

ما يرفض ظهور رجال الدين في فيس بوك ليس الدين بل التدين المحافظ، فالتدين الشائع يمجد القيم المحافِظة، وهو بذلك يحرِّم ظهور رجال الدين في فيس بوك إذا أُعتبر ذلك تحررا، فنحن إذاً أمام مواجهة جديدة بين القديم والحديث بإسم الدين. المحافَظة تقول أن “الخير في القديم” والتحرر يقول “الخير في الجديد”، ولأسباب معينة تحالَف التدين الشائع مع المحافَظة وصارت تعبر عن رؤيته الدينية، وصرنا نرى (بنظاراتنا المحافظة) في الدين تمجيداً للأقدم ونبذاً للأحدث (الفرد والسلوك والفكرة والُمنتَج)، ليتفق ذلك مع قراءة عقائدية سائدة للتاريخ تدّعي أن أخلاقيات البشر في هبوط مستمر (والحال عكس ذلك). إن إختيار التدين الشائع للمحافظة شريكاً يستحق الدراسة، فهل التديُّن يجعل الإنسان محافظا؟ أم أن المجتمع المحافظ يُفرز تديناً محافظا؟ أم لا علاقة سببية بينهما؟

يريد المحافظ الثبات واليقين في عالَم الحركة والشك، فيجد يقينه في القديم بينما يَسعَدُ المتحرر بالجديد، لكن تناقضهما العنيف يخفي بلادة جوهرية مشتركة، فهما يتجنبان التفكير بتفويض “الزمن” للحكم على الأشياء. وبينما يقبل المتحرر الجديدَ وان لم يكن سائدا، يفضِّل المحافظُ القديمَ الشائعَ على القديمِ المندثر، فالمحافظ إذن يضيف شرطا على الزمن هو “الشيوع”، والقديم الشائع هو “العرف”. لكن العرف (كاللباس والطعام) هو ما قبِله المجتمع من خيارات قيّدتها حالتُه البيئية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية وغيرها، والمجتمع اختار ما يرضيه مما أتاحته تلك القيود، فالعرف محروم من الكمال لأن المجتمع لم يكن حرا أو كاملا عندما اختاره، بل العرف هو ترجيحات واقعية/نفعية/برغماتية لاءمت قيود المجتمع آنذاك، ولو اختلفت تلك القيود لنتج عرفٌ مختلف. المحافظة والتدين الشائع يتفقان أيضا على تفضيل العرف، ومن الطريف أن يحاربا البرغماتيةَ (كموقفٍ من الواقع) والتكيّفَ مع القيود المعاصرة بينما يختاران قراراتٍ برغماتية قديمة، أي أن مشكلتهما ليست مع البرغماتية بل مع برغماتية هذا الجيل المدنَّس مقارنة بأجيال قديمة مقدَّسة، وذلك يجعلهما برغماتيان أيضا ولكن برغماتيان متخلفان.

يقبل التديّنُ الشائعُ العُرفَ مع سيرة العقلاء والمتشرعة، لكنه يرفض الديمقراطية التي تعطي نفس القيمة التشريعية لإرادة الناس، لأن الديمقراطيةَ إرادةُ الأحياء المدنَّسين والعرف إرادة الأموات المقدَّسين، وبهذا يتواطىء التديُّن الشائع مع المحافظة لإبطاء حركة المجتمع بربط أقدام كل جيل بأقدام سابقه.

الإنسان في تطور أخلاقي، بعكس الإدعاء العقائدي السائد. وسبب هذا التقدم هو تحسن مستمر في ظروفه البيئية والإقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، مما يخلق خيارات تقدمية جديدة. إن تخلف برغماتية المحافظين يؤجل الإستفادة من خيارات أفضل لحين تجعلها حركةُ البشر الطبيعية عُرفاً، فالمحافظُ يتبنّى عُرفا هو تحرّرٌ قديم رَفَضَه جَده المحافظ ويرفض تحررا جديدا سيصبح عرفَ حفيدِه المحافظ، فالتغيير كفر حتى يقبله الزمن، ثم يصبح إيمانا وغيره كفر. لكن الفجوة بين المتحرر والمحافظ لا تتجاوز الجيلين عادة، فالمحافظ يعرف أنه لو طبق القِيَم الخِطابية المجردة (الصالحة لكل زمان ومكان) أو تقمص المظهر والسلوك الكاملين لقدوة تاريخية لأصبح قطعة نادرة في متحف التاريخ الطبيعي، ولذا يرضى بتحرُّر جيل جده أو أبيه، أي أنه يفضل تحرر جيلٍ سابقٍ مُقدّس (تحرر أيام زمان) على تحرر الجيل المعاصر المدنَّس، فالمحافظ متحرر أيضا لكنه متحرر متخلف.

تأخَر دخول رجال الدين للإنترنت حتى تأسست مواقع معقَّمة، ثم تأجَّل توظيفهم للفضائيات حتى جاءت قنوات لا يشاهدها إلا المطهَّرون، وسيتكرر ذلك مع فيس بوك، فبدل أن يصبح الدين سلوك البقّال والخياط والطبيب صار دكانا منفصلا وأصبح التدينُ حياةً خارج الحياة. مؤسس صفحة السيد منير في فيس بوك هو متدين يعشق السيد، وقد حاول حمل القيم والشخصيات التي يوقرها معه، لكن السيد لا يود أن يذهب حيث اتجه كثير من محبيه و ١٧٥ مليون شخصا، فأغلب رجال الدين يفضلون البقاء وحدهم على الإنتقال لمنبر لم يقبله العُرف بعد. لكن جيل واضع الصفحة يؤسس عرفا يقبل فيس بوك، وسيلد ذلك الجيل رجال دين محافظين لا يستعيبون ما حرّمه آبائهم. لو اختار السيد المِهَنيّة لذهب حيث جمهوره، بل لتَركَ منابر “هداية المهتدين” لعدم جدواها المهنية واتجه حيث تحضر الفرصة وإن غاب العُرف، إذ لا يخلو فيس بوك من حُجّة!

3أبريل

السيد منير وفيس بوك (١\٢)

السيد منير الخباز رجل دين وخطيب شيعي مهم في شرق السعودية. حرَّم السيد وضع صُوَره في فَيْسْ بُوكْ، بعد أن أقام أحد محبِّيه صفحةً له أسوةً بالكثير من المشاهير الذين يكرمهم أعضاء فيس بوك. ويرى السيد أن من المستهجَن لدى المتدينيين الملتزمين أن يضعوا صورهم هناك، ففيس بوك لا يليق به ولا بأمثاله، وطلب إبلاغ واضع الصفحة أن السيد يحرم ذلك ولا يرضى به أبداً.

موقف السيد منير يعتمد على فهم خاطىء لفيس بوك، ففيس بوك ليس موقعا للصور الاعلانية، بل نموذج لتيارٍ طاغٍ إسمه “التواصل الإجتماعي”. لقد وعى التِقنيُّون أهمية ذلك التيار، فطعَّموا منتجاتهم بقدراته، ولم يفرِّقوا في ذلك بين التقنيات الشعبية (كالهواتف المتنقلة) وما يعتبر أكثر وقاراً (كأنظمة المؤسسات). وصارت بعض جهات التعليم والتوظيف تستخدم (أو تسيء استخدام) فيس بوك وغيره للتعرف على المتقدمين لها والحكم عليهم. فقد يُرفض طالب وظيفة لأن جوجل لا يعرفه، فكأن “من لا يُوجَد في جوجل فهو غير موجود”، لأن الوجود هناك يعني الإنتاج، وسيكون حال كل ناشط اجتماعي كذلك مع فيس بوك. رجل الدين الداعية هو من كائنات جوجل (لأنه منتِج) وفيس بوك (لأنه ناشط اجتماعي).

يَفترض موقف السيد منير أن في فيس بوك ما يلوِّث نقاء رجال الدين. إن الإلحاح في اجتناب الملوِّثات وضَع رجال الدين في حَجْرٍ صِحِّي، فهم لا يحضرون إلا أماكن معقمة، وهذا لا يتفق مع الدعوة. مهنة الداعية (كالطبيب) تحتاج معاشرة المرضى أكثر من الأصحاء، فالأطباء يقيمون بمواطِن المرض لا أماكن الصحة. الداعية النقي هو طبيب لم تصبه عدوى لأنه لم يلتق مريضاً، ولم تفشل له عملية جراحية لأنه لم يُجرِ أي عملية. لأن كل من عملَ أخطأ، قرر هذا الطبيب تجنب الأخطاء بتجنب العمل.

أخطرُ الجراثيم تعيش في المستشفيات، فقد إعتادت أقسى إجراءات التعقيم. وأشد الآفات الأخلاقية تسكن المساجد، لأنها تكيّفت مع أصلب الفتاوى. وعلمتنا الأزمة الاقتصادية الأميركية أن أشد مخاطر المال هي بين سادة المخاطرة المالية في العالم (أو هكذا حسِبناهم). إن ظن السيد منير أنه يَفِرُّ بدينِه من فيس بوك للمسجد فهو مخطىء، كما يخطىء الطبيب الذي يهرب من جراثيم الشارع لجراثيم المستشفى. فيس بوك والمسجد والمستشفى وسوق المال هي بطهارة الإنسان ونجاسته، هي الإنسان، هي نحن.

لا يستطيع أحد الجمع بين الإنتاج العالي والطهارة العالية، وعلى رجل الدين أن يختار بين المِهَنِيّة والتنسك. المِهَنيّ (كالداعية أو المعلم أو المهندس) فرد منتج إجتماعيا، وهو بذلك عرضة للخطأ، وخطأه ليس نتيجة أخلاقية بل إحصائية، فمن يعمل أكثر يخطىء أكثر، وزيادة الأخطاء سعرٌ محمودٌ لزيادة العمل. أما الناسك فهو فرد غير منتج إجتماعيا، وهو نموذج إنساني لا يستحق الثناء أو الإعانة. أحد مشاكل تراثنا (وتراث غيرنا) أنه أكرم النُسّاكَ ببذخ، بل فضلهم على المهَنيين، وترويج هذا الفكر رغّب مهنيينا للجمع بين نقيضين: المهني والناسك. ولأن التُراثِيّين يقودان مجتمعنا، تقلصت المهنية لأدنى ضروراتنا الحياتية، وتقلصت معها فترة الإنتاج في حياة الفرد، وهذا يفسر قلة إنتاج مجتمعات “النُسّاك الطاهرين” مقارنة بمجتمعات “المهنيين الخطّائين”.

30يوليو

تاروت ومصر القديمة

تقديم

يحتمل مايكل رايس اتصال مصر القديمة بجزيرة تاروت في شرق السعودية، فدراسته لآثار المنطقتين أعطته قرائن على صلات بينهما تعود للألف الثالث قبل الميلاد.

هدف المقال هو التعريف المبسط بكتاب رايس (والأفكار ذات العلاقة) كبحث متصل بتاروت، فقد يفيد الكتاب متتبعي تاريخ تاروت، وإن احتاجوا التدقيق في ملاحظات رايس التي يقدمها هو نفسه بتحفظ شديد.

إقتبستُ وترجمت بتصرف المواد ذات الصلة بتاروت في كتاب مايكل رايس “صُنع مِصر. أصول مصر القديمة 5000 – 2000 ق م”، وأضفت توضيحات بين أقواس مربعة وهوامش إيضاحية من مصادر أخرى.

إقتباسات

يرى رايس في عاجِيّات هيراكونبوليس أوضح الأدلة على انتقال تقنيات فنية عِيلامية لمصر، فأحد النُحوت يصور ريش عدة طيور بشكل مطابق لصورة إمدُكُد من تاروت. الريش في النقشين مطابق لدرجة يستحيل فيها الإعتقاد أن التقليد أو الصدفة تركا ذلك الأثر على عاجيّات هيراكونبوليس. الأقرب أن النقش المصري صنعه حِرْفي شرقي [من غرب آسيا]، أو مصري تدرب عند حِرْفِيّين مُلمّين بالتقنيات العيلامية، أو (على الأقل) مصري إطّلع على تلك التقنيات. إن أوجه التماثل مدهشة بين عاجيات هيراكونبوليس ومنحوتات تاروت. [رايس:82]

إن كل المواقع المصرية الكبرى في فترة ماقبل الأسرات تركت مصنوعات من اللازورد. إحدى أهم القطع (وهي من هيراكونبوليس) تُمثل امرأة عارية تضم يديها أمامها في وضع سائد في مابين النهرين أكثر من مصر. يُقترح افتراض أن القطعة صُنعت في الخليج العربي. قد لا نجد شبيها للتمثال عند فنان مصري، إلا أن التشابه عظيم بينه ومجسم من تاروت يُنسب للألف الثالث قبل الميلاد. يجسد تمثال تاروت عجوزا يلتحف عباءة، وتفوق مهارة صنعه مجسم هيراكونبوليس، لكن الشك ضئيل في ترابطهما. يتشابه الإثنان في التعامل مع تجاويف سميكة وعميقة للأعيُن، ويشتركان في الجو الانفعالي. من الصعب إنكار أن التمثالين جاءا من تراث واحد أو من تراثين متقاربين جدا. [رايس:92]

تمثال هيراكونبوليس. (المصدر: المتحف الاشمولي باكسفورد، بريطانيا.)
تمثال تاروت. (المصدر: المتحف الوطني السعودي)

رغم أن احتمال غزو من آسيا الغربية لمصر في ماقبل الأسرات مستبعد عادة، إلا أن علينا ملاحظة أن رأس صولجان حكام مصر في نقادة الأول  كان اسطوانيا، ثم تغير فجأة لشكل الأجاص لدى حكام هيراكونبوليس في ماقبل الأسرات المتأخر، واستمر شكله كذلك. ووُجد رأس صولجان بشكل أجاص في تاروت، ونُسب لبداية الألف الثالث قبل الميلاد. [رايس:102]

رأس صولجان اسطواني من نقادة الأول. (المصدر: مايكل رايس.)
رأس صولجان بشكل أجاص من ماقبل الأسرات المتأخرة. (المصدر: مايكل رايس.)
رأس صولجان بشكل أجاص من تاروت. (المصدر: المتحف الوطني بالرياض، السعودية.)

أقدم اشارة كتابية لديلمون تعود لـ 3000 ق م، في الواح مدينة الوركاء [في مابين النهرين]، وهذه الألواح هي أقدم كتابات في العالم. تسرد الألواح اسماء دول (منها ديلمون) مرتبة حسب بعدها عن الوركاء. والأقرب أن ديلمون في ذلك الوقت كان شرق الجزيرة العربية [وليس جزيرة البحرين] الذي عادة ما اعتُبر جزءا من ديلمون في فترة لاحقة، إذ لا توجد آثار صريحة لاستيطان في البحرين في زمن تلك الألواح (من الألف الرابع أو بداية الألف الثالث)، بينما وُجدت مواد من بداية الألف الثالث وبكميات كبيرة في شرق الجزيرة العربية.

يبدو أن هناك استيطان مبكر هام في بقيق وتاروت في شرق الجزيرة العربية، واستيطان الجزر هو من أبرز خصائص بداية السكن في الخليج العربي. لم تستكشف تاروت بكثافة حتى الآن، لكن التنقيبات الدنماركية (التي بدأت في خمسينات وستينات القرن الماضي) قدمت أدلة قوية على استيطان مبكر من الطبقات العليا لتاروت، مما يعني تاريخ استيطان قديم. [رايس:237]

خاتمة

ما كُتب عن تاروت (مع أهميته) هو تاريخ الهامش، فتاريخها قبل الميلاد هو (في معظمه) شهادة حجارة الحضارات الأخرى، وتاريخها حتى العباسيين هو شهادة سجلات الخراج والخوارج. وفي الحالين، هو موقف الآخر أو المركز من الهامش، أكان الأخر هو البحرين أو مابين النهرين في ما قبل الميلاد، أو كان المركز هو بغداد ودمشق والقاهرة في ما بعد الهجرة. وتظل شهادة تاروت نفسها غائبة، حتى نستنطقها كما فعلنا مع شركائها الحضاريين.

إن رجحت  احتمالات رايس عن أصول القطع الأثرية المصرية أو تقنيتها، فيجب التأكد من أن مصدرها تاروت وليس حضارة أخرى اتفقت معها في التقنيات. ولترجيح تلك الآراء تبعات كثيرة، فهو يعيد تقديرنا لقدرات تاروت القديمة في الصناعة والتجارة والمِلاحة. وبروز تاروت في هذه المجالات (إن رجحه الدليل)  يثير أسئلة أخرى عن التقنيات والفنون والقوانين (مثلا) التي جعلت ذلك الانجاز ممكنا. وفي كل الحالات، نحتاج جهدا مضاعفا من باحثين ماهرين لنتعدى محطة “ساحل الذهب الاسود”، ونؤسس تأريخا يتجاوز  “ديلمون” و”عشتار” و”يمرون بالدهنا..”

هوامش

مايكل رايس (Michael Rice): دبلوماسي بريطاني وباحث في آثار الخليج ومصر. له مؤلفات كثيرة في سياسة الشرق الأوسط والتاريخ القديم للخليج ومصر، تُرجم بعضها للعربية. تأثرت أعماله بمنهج كارل جونك في التحليل النفسي. أسس في 1969 شركة Michael Rice and Company للعلاقات العامة والمتاحف، وخططت الشركة متاحف في عدة دول محلية (كالبحرين والسعودية وقطر). منحته البحرين وسام الدولة من الدرجة الاولى عام 2003، وهو يرأس جمعية الصداقة البحرينية البريطانية منذ 1999.

مايكل رايس

تاروت (Tarut): جزيرة سعودية بالخليج (انظر الخارطة). هي من اوائل حواضر شرق الجزيرة العربية، اذ تعود للالف الثالث قبل الميلاد. كانت مركزا رئيسا في حضارات المنطقة القديمة، كالعراق (مابين النهرين) وإيران (عيلام) وشرق العربية (البحرين). برزت تاروت في الصناعة والمِلاحة، وتمتع ميناؤها بشبكة تجارية واسعة.

مصر القديمة (Ancient Egypt): بدأ الإستقرار البشري في مصر نحو 5000 سنة قبل الميلاد. آنذاك، كانت مُدن مابين النهرين (بين دجلة والفرات في العراق) قد أسست حضارة الإنسان الأولى، وكانت البشرية تخلو من التمدن إلا في حواضر مابين النهرين ومصر. وتعرفت مصر على حضارة مابين النهرين (بامتدادها في الخليج) وباقي حضارات غرب آسيا (كعيِلام في إيران وديلمون في الخليج العربي) وتبادلت التجارة والثقافة معها.

وتاريخ مصر القديمة هو من فترتين رئيستين: مصر ما قبل الفراعنة أو فترة ما قبل الأسرات الفرعونية، وفترة الأسرات (Dynastic) التي توحدت فيها مصر تحت حكم أسر من الملوك أو الفراعنة. وتنقسم كل فترة من هاتين لفترات أصغر.

ماقبل الأسرات (Predynastic): الفترة (5500 – 3100 ق م) التي سبقت قيام مصر الفرعونية. كانت مصر مجزئة لمصر العليا (جنوب مصر) ومصر الدنيا (شمالها)، قبل أن توحدها أسرات الفراعنة. وتنقسم فترة ماقبل الأسرات لثلاث فترات: نََقادة الأولى (4400 – 3500 ق م) والثانية (3500 – 3200 ق م) والثالثة (3200 – 3000 ق م).

في القرن التاسع عشر، ساد رأي بأن مصر الفرعونية أسسها محتلون من غرب آسيا، أي أن عِرق الحكام الفراعنة ليس مصريا. إن المعلومات الأثرية الحالية ترفض نظرية العِرق الحاكم، ولا يتبناها اغلب الباحثين المعاصرين، ومنهم رايس.

هيراكونبوليس (Hierakonpolis): مدينة من أوائل حواضر مصر القديمة وأهمها، إذ تعود لـ 4000 ق م. كانت عاصمة مصر العليا (جنوب مصر)، وموقعها بين الاقصر وأسوان في مصر المعاصرة (انظر الخارطة).

عيلام (Elam): حضارة نشأت في جنوب غرب إيران، وهي من أقدم الحضارات البشرية (2700 – 539 ق م)، وتعتبر بداية التاريخ الإيراني.


Map showing the area of the Elamite Empire (in red) and the neighboring areas. The approximate Bronze Age extension of the Persian Gulf is shown.
إمدُكُد (Imdugud): كائن خرافي بجسد نسر ورأس أسد، آمن السومريون (في مابين النهرين) أنه طاثر رياح الجنوب الإلهي، الذي يصنع العواصف بجناحيه وزئيره.

امدكد

© Copyright 2013, All Rights Reserved