12أبريل

السيد منير وفيس بوك (٢\٢)

ما يرفض ظهور رجال الدين في فيس بوك ليس الدين بل التدين المحافظ، فالتدين الشائع يمجد القيم المحافِظة، وهو بذلك يحرِّم ظهور رجال الدين في فيس بوك إذا أُعتبر ذلك تحررا، فنحن إذاً أمام مواجهة جديدة بين القديم والحديث بإسم الدين. المحافَظة تقول أن “الخير في القديم” والتحرر يقول “الخير في الجديد”، ولأسباب معينة تحالَف التدين الشائع مع المحافَظة وصارت تعبر عن رؤيته الدينية، وصرنا نرى (بنظاراتنا المحافظة) في الدين تمجيداً للأقدم ونبذاً للأحدث (الفرد والسلوك والفكرة والُمنتَج)، ليتفق ذلك مع قراءة عقائدية سائدة للتاريخ تدّعي أن أخلاقيات البشر في هبوط مستمر (والحال عكس ذلك). إن إختيار التدين الشائع للمحافظة شريكاً يستحق الدراسة، فهل التديُّن يجعل الإنسان محافظا؟ أم أن المجتمع المحافظ يُفرز تديناً محافظا؟ أم لا علاقة سببية بينهما؟

يريد المحافظ الثبات واليقين في عالَم الحركة والشك، فيجد يقينه في القديم بينما يَسعَدُ المتحرر بالجديد، لكن تناقضهما العنيف يخفي بلادة جوهرية مشتركة، فهما يتجنبان التفكير بتفويض “الزمن” للحكم على الأشياء. وبينما يقبل المتحرر الجديدَ وان لم يكن سائدا، يفضِّل المحافظُ القديمَ الشائعَ على القديمِ المندثر، فالمحافظ إذن يضيف شرطا على الزمن هو “الشيوع”، والقديم الشائع هو “العرف”. لكن العرف (كاللباس والطعام) هو ما قبِله المجتمع من خيارات قيّدتها حالتُه البيئية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية وغيرها، والمجتمع اختار ما يرضيه مما أتاحته تلك القيود، فالعرف محروم من الكمال لأن المجتمع لم يكن حرا أو كاملا عندما اختاره، بل العرف هو ترجيحات واقعية/نفعية/برغماتية لاءمت قيود المجتمع آنذاك، ولو اختلفت تلك القيود لنتج عرفٌ مختلف. المحافظة والتدين الشائع يتفقان أيضا على تفضيل العرف، ومن الطريف أن يحاربا البرغماتيةَ (كموقفٍ من الواقع) والتكيّفَ مع القيود المعاصرة بينما يختاران قراراتٍ برغماتية قديمة، أي أن مشكلتهما ليست مع البرغماتية بل مع برغماتية هذا الجيل المدنَّس مقارنة بأجيال قديمة مقدَّسة، وذلك يجعلهما برغماتيان أيضا ولكن برغماتيان متخلفان.

يقبل التديّنُ الشائعُ العُرفَ مع سيرة العقلاء والمتشرعة، لكنه يرفض الديمقراطية التي تعطي نفس القيمة التشريعية لإرادة الناس، لأن الديمقراطيةَ إرادةُ الأحياء المدنَّسين والعرف إرادة الأموات المقدَّسين، وبهذا يتواطىء التديُّن الشائع مع المحافظة لإبطاء حركة المجتمع بربط أقدام كل جيل بأقدام سابقه.

الإنسان في تطور أخلاقي، بعكس الإدعاء العقائدي السائد. وسبب هذا التقدم هو تحسن مستمر في ظروفه البيئية والإقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، مما يخلق خيارات تقدمية جديدة. إن تخلف برغماتية المحافظين يؤجل الإستفادة من خيارات أفضل لحين تجعلها حركةُ البشر الطبيعية عُرفاً، فالمحافظُ يتبنّى عُرفا هو تحرّرٌ قديم رَفَضَه جَده المحافظ ويرفض تحررا جديدا سيصبح عرفَ حفيدِه المحافظ، فالتغيير كفر حتى يقبله الزمن، ثم يصبح إيمانا وغيره كفر. لكن الفجوة بين المتحرر والمحافظ لا تتجاوز الجيلين عادة، فالمحافظ يعرف أنه لو طبق القِيَم الخِطابية المجردة (الصالحة لكل زمان ومكان) أو تقمص المظهر والسلوك الكاملين لقدوة تاريخية لأصبح قطعة نادرة في متحف التاريخ الطبيعي، ولذا يرضى بتحرُّر جيل جده أو أبيه، أي أنه يفضل تحرر جيلٍ سابقٍ مُقدّس (تحرر أيام زمان) على تحرر الجيل المعاصر المدنَّس، فالمحافظ متحرر أيضا لكنه متحرر متخلف.

تأخَر دخول رجال الدين للإنترنت حتى تأسست مواقع معقَّمة، ثم تأجَّل توظيفهم للفضائيات حتى جاءت قنوات لا يشاهدها إلا المطهَّرون، وسيتكرر ذلك مع فيس بوك، فبدل أن يصبح الدين سلوك البقّال والخياط والطبيب صار دكانا منفصلا وأصبح التدينُ حياةً خارج الحياة. مؤسس صفحة السيد منير في فيس بوك هو متدين يعشق السيد، وقد حاول حمل القيم والشخصيات التي يوقرها معه، لكن السيد لا يود أن يذهب حيث اتجه كثير من محبيه و ١٧٥ مليون شخصا، فأغلب رجال الدين يفضلون البقاء وحدهم على الإنتقال لمنبر لم يقبله العُرف بعد. لكن جيل واضع الصفحة يؤسس عرفا يقبل فيس بوك، وسيلد ذلك الجيل رجال دين محافظين لا يستعيبون ما حرّمه آبائهم. لو اختار السيد المِهَنيّة لذهب حيث جمهوره، بل لتَركَ منابر “هداية المهتدين” لعدم جدواها المهنية واتجه حيث تحضر الفرصة وإن غاب العُرف، إذ لا يخلو فيس بوك من حُجّة!

شارك التدوينة !

عن علي آل عمران

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

© Copyright 2013, All Rights Reserved